السعودية ترسم خطوط المستقبل الأمني والجيو اقتصادي.. إرهاصات ورهانات

السعودية ترسم خطوط المستقبل الأمني والجيو اقتصادي.. إرهاصات ورهانات

د. علي جمعة العبيدي

باحث ودبلوماسي ليبي

احتلت المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة مكانةً مهمة في إدارة لعبة السياسة الإقليمية في الشرق الأوسط، ولعل ذلك ليس جديداً على دولةٍ كانت ومازالت تعتبر من أهم اللاعبين الإقليميين في المنطقة، ولكن الجديد أن هذه الدولة بقيادتها الحالية، أي بعد تولي الملك سلمان العرش في البلاد وتنصيب ابنه محمد ولياً للعهد، أخذت سياستها الخارجية بعداً دولياً واضحاً، واستطاعت من خلال دورها الإقليمي والدولي أن تكون فاعلاً دولياً في العديد من القضايا والملفات السياسية المحلية والعالمية، وإن المراقب لمسار الأحداث وتطورات السياسة في الشرق الأوسط يلحظ بوضوح أن السعودية أصبحت جزءً لا يتجزأ من المعادلة السياسية وطرفاً لا يمكن تجاهله في أي تسوية أو إجراء سياسي. وذلك بفضل عاملين أساسيين اعتمدت عليهما القيادة السعودية خلال العقد الأخير، وهما عملية تكييف السياسة الخارجية بحسب المقتضيات المرحلية وبما ينسجم مع التطورات والتوجهات الإقليمية والدولية، والعامل الآخر هو التنمية الداخلية المرتكزة بشكل أساسي على التطوير الاقتصادي وبعض الإصلاحات الإدارية.

فالسياسة الخارجية السعودية تغيرت بشكل واضح منذ عام 2015 حتى يومنا هذا، حيث اتبعت في بدايتها منهجاً تصادمياً وتصعيدياً مع خصوم وأعداء المملكة، كما لجأت للخيارات العنيفة والإجراءات الحادّة تجاه الأزمات والقضايا التي تهدد أمن المملكة أو تتعارض مع مصالحها، كانت بدايتها بإطلاق عاصفة الحزم في مارس 2015 ضد حركة أنصار الله في اليمن، وهو ما أدى بالطبع إلى توتر العلاقات وازدياد التصعيد بين السعودية وإيران – الحليف والداعم الأول لأنصار الله في اليمن – وهي العلاقة التي كانت متوترة أصلاً بسبب استمرار السعودية آنذاك في دعم قوات المعارضة السورية ضد نظام بشار الأسد، ثم كانت الأزمة الخليجية التي اتخذت فيها المملكة العربية السعودية إجراءات شديدة وصارمة مع قطر، بعد إعلان الرياض قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الدوحة، وانضمت إلى الموقف السعودي حينها كل من مصر والبحرين والإمارات العربية المتحدة. شكّل هذان الحدثان بالإضافة إلى التباعد والخصومة السياسية بين السعودية وتركيا المتزامنة مع الأزمة الخليجية، العلامات الفارقة التي ميزت السياسة السعودية في الفترة الأولى من حكم الملك سلمان وولي عهده محمد.

لكن السياسة السعودية شهدت انعطافة كبيرة مع نهايات 2020، حيث بدأت الرياض تميل إلى خيار التفاوض والمسارات الدبلوماسية لحل النزاعات والقضايا العالقة، ويمكن القول أن السعودية وصلت إلى قناعة بوجوب تقليل الخصومات السياسية مع الأطراف الإقليمية، وتقليص التدخل السعودي في الشؤون الداخلية لبعض الدول التي أصبحت مسرحاً للحروب الأهلية والنزاع الداخلي، والعمل بدلاً من ذلك على تخفيف التوتر وتحسين العلاقات مع الخصوم السابقين، وهي سياسة شبيهة جداً بسياسة “صفر مشاكل” التي اتبعها حزب العدالة والتنمية التركي في السنوات الأولى من وصوله للسلطة في تركيا، والتي نظّر لها ووضع أسسها السياسي التركي “أحمد داوود أوغلو” وزير الخارجية التركي السابق. وحدث ذلك التحول بعد أن أدركت الرياض عبثية السياسة السابقة على المدى الطويل، واتضح أن أضرارها وأخطارها على أمن ومصالح السعودية أكبر من نفعها، فبدأت العمل على تصفير المشاكل من خلال المفاوضات والوساطات الدولية، وحققت نجاحاً نسبياً في هذا المسعى.

كانت أولى الخطوات التي أقدمت عليها الرياض هي ترميم العلاقات الخليجية وإصلاح البيت الخليجي الداخلي، والذي يعتبر الحصن الجيوستراتيجي الأهم وسد الدفاع الأول لحماية الأمن القومي والسياسي والاقتصادي لدول مجلس التعاون الخليجي وعلى رأسها السعودية، فسعت الرياض لتحقيق المصالحة الخليجية من خلال استئناف العلاقات مع قطر، وقد كانت الرغبة لإنهاء الأزمة الخليجية متبادلة بين الطرفين – الرياض والدوحة-، فكانت الاستجابة القطرية سريعة، ونجم عن تلك المساعي المتبادلة عقد قمة مجلس التعاون الخليجي في منطقة ” العلا ” في المملكة العربية السعودية بتاريخ 5 يناير 2021، وشكلت هذه القمة انفراجة في العلاقات السعودية القطرية وذلك بحضور أمير قطر للقمة، والإعلان رسمياً عن إعادة  فتح الأجواء والحدود البرية والبحرية بين المملكة العربية السعودية ودولة قطر.

ثم التفتت الرياض إلى الملف الأهم والذي يشكل الهاجس الأكبر للرياض في سياستها الخارجية وهو التعامل مع إيران وأذرعها الإقليمية، فبدأت بالتهديد الأخطر على حدودها الجنوبية والمتمثل بحركة أنصار الله االتي سيطروا على صنعاء وعلى العديد من المناطق اليمنية ومنها المناطق المحاذية للحدود السعودية، حيث شرعت السعودية بإطلاق حل سياسي حين أعلنت في مارس 2021، عن مبادرة لإنهاء الأزمة اليمنية، تنص على الوقف الكامل لإطلاق النار، تحت إشراف الأمم المتحدة، كما أطلقت بالتزامن مع ذلك مفاوضات بإنهاء الأزمة والنزاع مع أنصار الله، وقد تكللت مسيرة المفاوضات تلك بنجاح نسبي واتفاق مبدئي لوقف إطلاق النار، وهو ما أوقف الهجمات اليمنية على الأراضي السعودية.

ثم انتقلت السعودية لمعالجة ملف العلاقة مع إيران بعد انقطاع العلاقات بين البلدين في عام 2016، واتضح التوجه السعودي لإعادة العلاقات مع طهران من خلال استجابتها للوساطة الصينية بين السعودية وإيران، حين أعلنت الصين والسعودية وإيران في بيان ثلاثي عن إعادة فتح السفارات واستئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران في 10 مارس 2023، ومثلت تلك الخطوة النجاح الأهم في الدبلوماسية السعودية الهادفة لتطبيق سياسة ” صفر مشاكل ” وتقليل الأعداء وكسب الأصدقاء، كما أشارت إلى وزن السعودية كدولة وكفاعل إقليمي دفع بقوة دولية كبرى (الصين) للتدخل والتوسط السياسي بينها وبين إيران.

وكنتيجة مباشرة لذلك الاتفاق التاريخي مع إيران، شرعت السعودية في تطبيع العلاقات مع نظام الأسد في سوريا، فجرت الزيارات المتبادلة بين الرياض والنظام السوري في أبريل ويونيو من عام 2023، كان أبرزها وأولها زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان لدمشق في 17 أبريل 2023، وحضور بشار الأسد للقمة العربية في السعودية في مايو من العام نفسه، ولكن مسار التطبيع لم يكتمل بسبب بعض التحفظات التي أبدتها السعودية، فتعثرت الخطوات لاستعادة العلاقات بشكل كامل رغم التقدم الجزئي الذي حصل.

وكانت السعودية في عام 2022 قد أقدمت برغبة متبادلة مع أنقرة على تطبيع وتحسين علاقاتها مع تركيا بعد عدة سنوات من الجمود والتوتر في العلاقات السياسية بين البلدين، واسُتهلّ مسار التطبيع بزيارة ولي العهد السعودي الأمير  محمد بن سلمان  لأنقرة حيث التقى بالرئيس التركي أردوغان بتاريخ 22 يونيو 2022، وتعد تلك الزيارة لتركيا الأولى لولي العهد السعودي، وفي ذلك اللقاء أكد البلدان عزمهما المشترك لتعزيز التعاون في العلاقات الثنائية في ذلك المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية والثقافية. ومنذ ذلك الحين استمر تقدم مسار التطبيع بسرعة ونجاح كبير، وكان ذلك خطوة مهمة لصالح السعودية، فإن التصالح وتعزيز العلاقات مع طرف إقليمي قوي مثل تركيا ضرورة سياسية لضمان مصالح وأمن المملكة، ولتحقيق توازن في العلاقات السياسية بين الأطراف الإقليمية الرئيسية وهي إيران وتركيا.

توازى مسار التهدئة السياسي الذي سلكته المملكة مع مسار التنمية الاقتصادية والإدارية الشاملة التي قادها ولي العهد محمد بن سلمان، فتحقيق التنمية الداخلية كان يتطلب بالضرورة حل المشاكل وتسوية الخلافات خارجياً، والمتتبع لسياق السياسة الخارجية التي اتبعتها السعودية مع كافة الأطراف الإقليمية والدولية يرى بوضوح ارتباط هذه السياسة بمقتضيات المصلحة الوطنية السعودية، وخصوصاً الجانب الاقتصادي الذي كان الدافع والغاية الأهم من المبادرات والتحركات السياسية التي قامت بها السعودية في السنوات الأخيرة، فاستئناف العلاقات ومسارات التطبيع والمفاوضات التي انخرطت فيها المملكة مع إيران وتركيا واليمنيين وغيرهم، تتماشى مع الأهداف والخطط التنموية والاقتصادية التي وضعتها وتنفذها القيادة السعودية، فلا يمكن لاقتصاد محلي أن ينمو في بيئة جيوسياسية معادية أو غير مستقرة.

تأتي على رأس تلك الخطط والأهداف الكبرى “رؤية السعودية 2030″، والتي تهدف بشكل أساسي إلى تنمية الاقتصاد السعودي وتطويره بالانتقال من النمط الريعي الاستهلاكي القائم على الواردات النفطية إلى النمط الإنتاجي القائم على الأنشطة الاقتصادية غير النفطية، وهي بذلك تحقق للاقتصاد السعودي التحرر النسبي من الاعتماد على النفط كمحرك أساسي لعجلة الاقتصاد في البلاد، وسينتج عن ذلك اكتساب المزيد من الاستقلالية السياسية  كتحصيل حاصل، فلطالما فرضت بعض الموافق أو السياسات على الرياض نتيجة لمقتضيات حيازتها وتصدريها للنفط عالمياً، وارتابط هذا الملف بملف أمن الطاقة العالمي والمصالح العليا للدول الكبرى.

إذاً فمسار السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية يتكامل مع سياستها الداخلية وخططها الرامية لتحقيق تنمية اقتصادية نوعية وتنفيذ إصلاحات إدارية وخطط تحديث شاملة في البلاد، وإن امتناع السعودية عن الانضمام إلى تحالف “حارس الازدهار” الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية رداً على التهديدات اليمنية للملاحة البحرية في البحر الأحمر،يؤكد على تمسك السعودية بهذا المسار السياسي الذي يميل للتهدئة وتحقيق السلام في المنطقة، فانضمامها إلى التحالف من شأنه أن يعرقل أو يتسبب بفشل المسار التفاوضي بين الرياض واليمنيين في اليمن، وتعكير مسار تطبيع العلاقات مع إيران، ولذلك التزمت الرياض بإعطاء الأولوية لأمنها القومي ومصالحها الوطنية قبل مقتضيات تحالفاتها وشراكتها مع الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية الحليف الاستراتيجي والتاريخي للمملكة العربية السعودية.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. علي جمعة العبيدي

باحث ودبلوماسي ليبي

اترك تعليقاً