في معظم الدول العربية والإسلامية أصيب العمل الحزبي بنكسات كبيرة، بل تم تحريمه وتجريمه في الكثير من الدول، ويعود ذلك الى عدة أسباب اجتماعية وسياسية ودينية، فالنظام القبلي أو الجهوي الذي يعتمد على القبيلة والعشيرة (نظام ما قبل الدولة) يتناقض مع النظام الحزبي العابر للأعراق والمدن والقبائل، بالمقابل النظام العسكري لا يتحمل المنافسة والمشاركة السياسية أو النقد، فيزعم دائما أنه صمام أمان لاستقرار الدولة، وأن المعارضين هم خونه أذناب للخارج، بالمثل هناك النظرة الدينية السلفية التي تحرم الحزبية والديموقراطية والانتخابات، وترتمي في أحضان الاستبداد كتبادل منفعة بينها وبين السلطة الحاكمة، دون أن تضع بديل يكفل تطبيق مبدا الشورى بطريقة عصرية.
خلال السنوات العشر الماضية وخاصة عقب انتفاضات الشعوب المغاربية والشرق الأوسط، كان هناك تزايد كبير في عدد الأحزاب المسجلة رسميا، ففي الفترة 2011 إلى 2013 م تم تسجيل 60 حزب في مصر و124 حزب في ليبيا وأكثر من مئة حزب في تونس، وبعد سبعة سنوات لم يبقي من هذه الأحزاب إلا أسمائها في سجلات الدولة، ولم يتوقف الامر بل أضيف لها أحزاب أخرى خلال السنوات التالية، والسؤال ما الذي أذى إلى فشل كل تلك الأحزاب وبقاء عدد قليل منها في الساحة السياسية؟.
الأحزاب كغيرها من مشاريع الأعمال تقول التقارير أن 40% يغلق أبوابها قبل نهاية السنة الأولى، و 4% فقط تستمر بعد عشر سنوات، وذلك للعديد من الأسباب الجوهرية؛ أهمها أن قيادة الحزب أو الشركة تُبنى على أسس فردية (رئيس الحزب أو الشركة) بدعوى المعرفة الفنية للمجال، مما تنتفي معه المؤسسات حزبية ويصبح الحزب فردي القيادة والتوجه، فيعجز عن بناء قاعدة شعبية والتواصل معها، أو يغيب المؤسس فينتهي الحزب، ولذلك فان بناء هياكل الحزب وتوزيع المهام على درجه كبيرة من الأهمية لديمومة العمل السياسي.
الأمر الثاني أن معظم الأحزاب ليس لها برامج محددة؛ فالمُطلع على أهداف وبرامج الأحزاب يجد جميعها مكرره وفيها الكثير من الخلط بين الرؤية والرسالة والأهداف والبرامج، فمثلا تجد العدالة والمساواة والتبادل السلمي للسلطة والفصل بين السلطات وحرية الصحافة وحرية التملك وحرية التعبير مكرره كثيراً، وهذه مبادي حاكمة (من 32 مبدا) للدولة الديموقراطية لا غنى عنها ولا حيود عليها وليست أهدافا أو برامج للأحزاب.
كما أن الكثير من البرامج تستخدم الشعارات الدينية والأيديولوجية مما يفقدها قطاع كبير من المعارضين لذلك التوجه، فكما نعلم أن الأيديولوجية قد انتهت من العمل السياسي في الكثير من الديموقراطيات العريقة وما بقي منها استغلال شعبوي للشعارات كثيرا ما يفشل في الانتخابات أو يخلق منظومة استبداد جديدة باسم الديموقراطية والانتخابات، كما حدث في مصر عند اتخاذ حزب الإخوان “الإسلام هو الحل” شعارا للانتخابات وكما يحدث في إيران الإسلامية والهند الهندوسية في السنوات الأخيرة. ولا شك أن المنادين بالقومية مثل الناصرية والبعثية والأحزاب الدينية مثل الإخوان والأحزاب السلفية لن يكون لها مستقبل إلا بقدر تبنيها للقيم الديموقراطية ووضع برامج لخدمة الوطن وليس لخدمة الأيديولوجيا أي كانت.
مشكلة البرامج مشكلة جوهرية للكثير من الأحزاب الناشئة، والتي يجب أن تكون ملاصقة لاحتياجات الجماهير وتطلعاتهم ومعالجة لاختناقات حياتهم والتي تساعد على تطوير وتنمية الدولة، وليست جرعات من المسكنات أو ردأت الأفعال غير ممنهجة للأحداث طارئة.
ففي ليبيا مثلا هناك مشاكل معقدة مثل إعادة هيكلة إدارات الدولة واعتماد معدلات الأداء، وتوسيع التنمية المكانية، ومعالجة مشكلة البطالة، ومحاربة الفساد، وتنظيم العمالة الوافدة، والمشاركة بين القطاع العام والخاص، وتصفية الشركات العامة الخاسرة وغيرها من المختنقات الإدارية والاقتصادية، وعلى المستوى الاجتماعي والثقافي محاربة القبلية والجهوية وترسيخ مبدا المواطنة وتبني مبادي التنوع الثقافي، وفي موضوع التعليم إعادة هيكلة التعليم مع تعميم معايير الجودة، ووضع برامج للتحفيز، وفي الصناعة تشجيع المستثمرين المحليين ومشاركتهم مع المحليين في إنشاء مشاريع استثمارية وسن قوانين لها وإعادة تفعيل المصارف.
الأمر الثالث هو بناء القاعدة الشعبية لأحزاب، والتي تحتاج إلى الكثير من العمل لاستقطاب الكفاءة الجيدة الفاعلة، ثم التواصل المستمر مع الفئات المستهدفة من المواطنين واستقراء آرائهم والتفاعل مع متطلباتهم، من أجل دعم برنامج الحزب وإيجاد شعبية جامعة له. وقد يتم التواصل مباشره بعقد ورش عمل أو عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي أو المداخلات الإذاعية والتلفزيونية.
الجدير بالذكر أن الاحزاب السياسية الإسلامية لها تجربه كبيرة في عملية التواصل مع الناس من خلال الجناح الدعوي للحزب الذي يقدم المعونات والصدقات وبذلك كسب قلوب الفئات المهمشة من الشعب كما في تجربة الفيس في الجزائر وحزب النهضة في تونس وحزب العدالة في المغرب والإخوان في مصر. وفي جميع الأحوال يجب أن يكون لفئة الشباب دور رئيسي في إدارة دفة التواصل والإعلان وعرض برامج الحزب من أجل تأهيلهم مستقبلا لتولي قيادات الدولة.
أخيرا مشكلة التمويل، وهي مشكلة كبيرة عند الأحزاب الناشئة، فدول العالم الثالث ليس لها شركات كبرى تتقاطع مصالحها مع الأحزاب لدعمها وأن معظم الدول لا تقوم بالدعم للأحزاب الوطنية التي تعتبر معارضة للحكومة، وبذلك يقتصر التمويل على بعض الأثرياء واشتراكات الأعضاء وهو تمويل قليل لا يسمح بإدارة حزب طامح إلى وضع برامج حقيقية وعرضها والدفاع عنها لأجل كسب قطاعات كبيرة من الجمهور. وفي هذا الصدد يجب على النشطاء تحفيز الحكومة على سن قوانين دعم للأحزاب بدل الركون إلى مجموعات المصالح الخاصة التي تجعل الحرب مطيه لتنفيذ رغباتها، إضافة إلى إدارة الاشتراكات بطريقة واعية.
خلاصة القول إن المعرفة الحزبية تراكمية في أساسها، وفي دول عانت من التصحر السياسي لعقود طويلة تكون مهمة إنشاء أحزاب وادارتها مهمة عسيرة، ولكنها ضرورية لبناء الدولة على أسس حضارية سليمة بعيدة عن القبلية والجهوية والمحاصصة المقيتة، أو تنصيب هواة السياسة بإرادة دولية أو إقليميه من أجل خلق دمى تابعة للخارج وتكون المصلحة الوطنية في آخر أولوياتها.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً