على مدى إحدى عشرة سنة ومذ غادر آخر أمين للجنة الشعبية العامة في النظام السابق البغدادي المحمودي مكتبه بالمبني الزجاجي بطريق السكة.. لم يكن الدخول إلى مبنى رئاسة الحكومة لاعتلاء كرسي رئاسة الوزراء إلا بإحدى (الشرين) دماء أو أموال فاسدة.. فشعارات التداول السلمي والديموقراطية والدولة المدنية لا تعدو كونها إلا صخب إعلامي ومانوفيستو ديماغوجي.. مجرد مكياج لترميم تجاعيد وتشوهات على وجه دولة ليبيا (المزعومة).
أذكر أن (إرحل) كان هو الشعار والأيقونة الجاذبة للطبقة المحتقنة و(الفياجرا) المهيجة لجموع الاضطرابات في كل بلدان ما يسمى بـ(الربيع العربي).. واليوم بعد أكثر من عقد من التغيير لا يختلف الحال والمآل بينها كثيرا.. فبينما قامت عربة التغيير في مصر وسوريا وتونس باستدارة كاملة حرف U-Turn (يوتيرن).. كان الحال في ليبيا هو رجوع عربة التغيير إلى الخلف عبر وضع R:Reverse.. المؤلم أن في ليبيا عاد الحال بالجموع المطحونة أن تطلب (الرحيل) لمن استولوا على مقاليد الأمور ممن كانوا يهتفون بـ(الرحيل) لسابقيهم.. هناك من يطلب رحيل مجلس النواب برمته القابع في المشهد السياسي منذ قرابة ثمانية سنوات.. وهنالك من يطلب رحيل مجلس الدولة.. النسخة المتحورة من المؤتمر الوطني.. وغيرهم ينادي بخروج المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية.. إلا أن الأغلبية الشعبية تتفق على ضرورة اختفاءهم جميعا من المشهد.. إذن لابد أن هناك خلل مجتمعي بنيوي وثقافي صارخ.. فتكرار طلب رحيل الحاكم في حقب تاريخية مختلفة.. يعكس ضمنا التشبث بالسلطة تحت ذرائع مختلفة وأعذار مختلقة.. ويشي بحالة فصامية متجذرة.. فمن كان يطالب برحيل الآخر.. صار هو نفسه ذاك الآخر حينما اعتلى منصة السلطة.. ومن عرض نفسه بدايةً خادما للشعب.. تحول لاحقاً خائنا للشعب والقيم.
هناك افتقار واضح لآلية (مشرعنة) للتغيير وإدارة التحول.. يرافقه غياب لكراس وطني توافقي يطرح مفهوم الدولة والأمة ومحددات العلاقة بينهما والصيغة التعاقدية المجتمعية للأمن الوطني وعوائد الثروة والتعايش.. ما حدث عبر هذه العشرية المضطربة من استهتار (دستوري) مريع.. إنفاق أربع سنوات لإخراج مسودة دستور.. وعجز لنحو خمسة سنوات للاستفتاء عليه.. يشير إلى حالة سيكوباتية نخبوية بامتياز وأزمة عميقة تاريخية بين أبناء الشعب الليبي خاصة شرقه وغربه.. هذه الأزمة المتراكمة والمُرحلة.. والمغطاة بوهم دولة ليبيا انكشفت عبر الإخفاق في إجراء انتخابات وطنية شاملة نهاية العام 2021 واختفاء كل المسئولين عن الفشل في مفوضية الانتخابات والبرلمان ومجلس الدولة وراء حجج واهية عكست حالة التخلف (الديمقرطي) لنخب ليبيا الحاكمة وعدم الجاهزية والقابلية للتغيير السلمي.
أضحت جل مكونات البيئة والبنية السياسية في ليبيا مستوردة الأفكار والشخوص.. صممت عملية التحول (الديمقرطي) الليبي المزعوم في مختبرات دولية خفية وأخرى إقليمية مرخصة.. ممهورة باعتماد بعثة UNSMIL.. كل هدفها إنتاج عقاقير مسكنة للأوجاع الوطنية لا تمس مكمن الداء والعلة.. حيث الاستبداد والعنف والتسلط والتبعية واللاعدالة.
ثمانية مبعوثون دوليون تداولوا حالة التخدير السياسي وعشرات الإحاطات لمجلس الأمن وأعداد من المؤتمرات الدولية والإقليمية وعشرات اللقاءات لأصدقاء ليبيا وحتى أعدائها.. وحوارات لا منتهية العدد ولا الوقت برعاية سفراء يتنقلون داخل رحاب ليبيا كالباعة المتجولون يرسمون وهم الاستقرار بمداد الأموال المنهوبة والمتطوعين من كتائب الحقد والعمالة.. تحولت المستشارة الأممية الشيخة (ستيفاني) إلى واعظ ومرشد سياسي سياحي يلتقي بالفرقاء جميعاً ولا يجمعهم (البرلمان، القيادة العامة، مجلس الدولة، رئاسة الحكومة، المجلس الرئاسي).. بينما يطرِب السفير الأميركي الليبيين بمعزوفات السلام ويحاول جاهدا منافسة برنامج العم (الهادي) في تناوله للمشاكل التي تواجه النخبة السياسية الليبية.. والنتيجة عشر سنوات (سمان) من المراحل الانتقالية العبثية حيث ضاع العمر والمال والرجال.. وطمست الأصوات الوطنية المنادية بعصر جديد أفضل ودولة جديدة جامعة للتنوع مستوعبة للاختلافات.
يختلف الليبيون على كل شيء.. وتختفي بينهم حدود التوافق والاختلاف.. وهذا في تقديري جوهر الأزمة الليبية العويصة.. ولذا نعيش جميعا حالة من التدمير الذاتي والصراع اللامنتهي وغير المفهوم.. والهلامي التوصيف.. فالبعض يجنح لنظرية المؤامرة الخارجية.. وبعض النخب تُفسر الأزمة أنها وليدة تناقضات وهشاشة بناء الدولة الليبية.. وهذا ما يدفعني إلى طرح هذا السؤال التاريخي: هل الليبيون صنعوا واقعهم أم الواقع هو الذي صنعهم؟.
ما يحدث الآن من انسداد للعملية السياسية وانقسام إداري وجغرافي لمؤسسات عمل الدولة واحتمالية الجنوح للصدام والعنف.. أحد الجينات الليبية الحصرية.. جراء رفض حكومة الوحدة الوطنية تسليم المبنى الزجاجي بطريق السكة لحكومة الاستقرار الوطني في تقديري يُشكل أحد أخطر اللحظات التاريخية التي تُهدد جغرافية ليبيا وأمنها ووحدتها واستقلالها.
الطريق إلى طريق السكة واعتلاء كرسي الحكومة لأي رئيس وزراء لن يكون ممهداً ومعبداً ومرصوفاً كطرق مشاريع عودة الحياة أو (عودة الصراع).. للأسف فالطريق مليء بالمطبات والألغام والاستيقافات والسواتر.. ورئيس الوزراء القادم عليه أن لا يشطح بآماله السلمية بعيداً متأبطاً ورقة ثقة البرلمان.. فالأزمة الليبية تشعبت وتمددت.. حتى أنها وللعجب صارت أزمة شعوبا وقبائل.. فهي من جهة دولية بامتياز منذ أن حشر حلف الناتو أنفه فيها ذات يوم من مارس 2011 م.. وهي إقليمية تنتظر انفراجا في تناغم المصالح التركية والمصرية وبعض من الخليجيين.. ومحلية بين شركاء الأمس فرقاء اليوم من الغرب الليبي.. بل نزلت لتكون حتى عائلية بين أبناء المدينة الواحدة.
للوصول إلى مبنى طريق السكة هناك روزنامة من الملفات المشفرة الواجب الوصول إلى كودها.. فالوضع الدولي الملتهب بسبب الحرب على أوكرانيا والاصطفاف الأميركي الأوروبي الشرس ضد الروس ينعكس سلبا وبشكل مباشر على شرعية الحكومة الليبية القائمة أو القادمة بسبب التواجد والارتباط الروسي العسكري بالشأن الليبي.. بالإضافة إلى سياسات إعادة التموضع بين الدول الإقليمية المتدخلة في الأزمة الليبية (مصر، تركيا، قطر، الإمارات، السعودية، الجزائر) نتيجة إعادة الحسابات والمناكفات أيضاً.. ناهيك عن الملف المحلي الشائك والأخطر.. فحالة التوحد التي تعانيها حكومة الوحدة الوطنية وتحول المجلس الرئاسي (الميت اكلينيكياً) إلى مومياء.. ورقصات مجلس الدولة البهلوانية.. وافتكاك حكومة الاستقرار الوطني لشرق وجنوب ووسط البلاد عسكرياً وإدارياً.. علاوةً على الاحتقان الحاد بين مناصري رئيسي الحكومتين من قوى عسكرية واجتماعية ينذر بالأسوأ.
أمام هذه المتاهة الليبية فإن ولوج حكومة الاستقرار الوطني لمبنى الحكومة بطريق السكة بمنهجية التداول بقوة القانون لا قانون القوة يزداد وعورة ولن يكون سلسا.. وبالمقابل فإن طرح حكومة الوحدة الوطنية بعدم التسليم إلا لحكومة منتخبة والتحجج بعقد الانتخابات لا يغدو كونه دس السم بالعسل ونوع من الفنتازيا السياسية.. كل عاقل يدرك أن إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية أو إحداهما خلال شهر يونيو القادم هو ضرب من المستحيل.. والانتظار للجنة المسار الدستوري لإنجاز قاعدة دستورية للانتخابات هو أشبه بحالة الحمل الكاذب.
سيظل تداول السلطة سلمياً في ليبيا في المنظور القريب عصياً.. خلال السنوات العشر الماضية كانت الأرواح والأموال الليبية هي كلفة فاتورة تغيير السلطة.. ووصلنا الآن إلى مرحلة متقدمة من الشراسة السياسية للمشهد الليبي حيث أطراف المعادلة الدولية والمحلية توسعت.. والمطالب والمصالح تضخمت.. والمافيات تغولت وتمترست.. فمن يفكر في الدخول لطريق السكة وتولي زمام الأمور يفكر في الوقت نفسه في كيفية الخروج.. أجزم أن استلام مفاتيح طريق السكة لن يكون إلا بصفقة خلف الكواليس.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً