التدين كظاهرة بشرية كونية، شاعت مع ظهور الإنسان العاقل على وجه الأرض، وهي نزعة بشرية لإيضاح ما عجز الإنسان على تفسيره، ولذا لجئ إلى ما وراء الطبيعة لتحميلها عجزه والاستعانة بها لتعويض قصوره الجسمي والعقلي، وهذه القوة هي الله عند المسلمين ويهوا عند اليهود وبراهما عند الهنود، وبوذا عند البوذيين، وآلاف أخرى من الآلهة غير التوحيدية. وبغض النظر عن الفروقات العقدية، تطورت الديانات عبر العصور على عدة مراحل يمكن عرض ثلاثة منها:
المرحلة الأولى ما قبل 600 عام قبل الميلاد، هذه المرحلة أتسمت بتعدد الآلهة عند معظم الشعوب إله الشمس، وآخر للقمر وثالث للمطر وغيره الخصوبة، وهناك آلهة تصنع من الأحجار أو الخشب وحتى التمر، وهي آلهة وسطية مجسمة ملموسة تعمل على تقريب الانسان المتدين إلى القوى الخارقة المتحكمة في الكون. ويلاحظ أن هذه المرحلة المتعددة الالهة قليلة الحروب الدينية، لعدم وجود تعصب للدين، وعدم الادعاء بامتلاك الحقيقة، رغم أن تلك الآلهة بسيطة وليس لها جوانب فلسفية معقدة أو طقوس مركبة، سوى الاستفادة منها لدفع النوائب أو جلب المصالح والفوائد حسب تفكير تلك الشعوب الغابرة. والحروب المحدودة كانت لأجل الغنيمة والاستيلاء على الموارد، وحيث أن احتياجات الإنسان قليلة في تلك العصور فالحروب كانت محدودة ووسائل دمارها بدائية.
المرحلة الثانية وهي من القرن السادس قبل الميلاد إلى القرن الخامس الميلادي، هي فترة تبلور الدين التوحيدى الذي يؤمن بإله واحد مسيطر على الوجود، ومن هذه الديانات التوحيدية الزرادشتية، اليهودية، المسيحية، الإسلام، وعشرات المذاهب المتفرعة منها. هذه الديانات في معظمها لها كتب سماوية وتعاليم ماورائية، تشترك في تهذيب النفس البشرية، وتعظيم القيم الأخلاقية عند الإنسان، ليحيا حياة كريمة كأفراد وجماعات.
رغم أن الديانات التوحيدية تختلف في شعائرها وطقوسها التي تؤدي إلى تعظيم القيم، إلا أن معظم هذه الأديان تتفق في وجود عدل إلهي إن لم يكن في الدنيا فإنه سيكون في الآخرة، فجزاء المتمسكين بالقيم الجنة أما المخترقين لها مصيرهم النار الخالدة، وهو سبيل لترغيب البشر على اتباع السلوك القويم، ولاحظ أن استخدام الدين كمبرر للحرب كان على أوجه في هذه المرحلة والقرون اللاحقة، رغم التعاليم السمحة لتلك الأديان، ويعود ذلك إلى تبني الديانات التوحيدية والمذاهب المنبثقة عنها فكرة امتلاك الحقيقة وبطلان ما سواها، وهو ما يبرر الاعتداء على الغير تارة باسم التبشير، وأخرى باسم نشر الديانة أو المذهب، أو إقامة شرع الله، رغم أن معظم تلك الحروب العبثية لها نوازع غير دينية مثل النظرة التوسعية لحكام الدول أو جني المكاسب بالاستيلاء على ثروات غيرهم، أو حتى طلب الزعامة على منطقة معينة.
في منتصف القرن العشرين أصبح هناك وعي حضاري أن التمسك بصيغة واحدة للدين وبمذهبية معينة، وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة لا يؤدي إلا إلى حروب ودمار لا مبرر له، وأن الاعتراف بالاختلاف والتنوع هو السبيل الوحيد لتلافي تلك الحروب الدينية العبثية، وهذا انعكس إيجابا على الكثير من الدول الإسكندنافية مثل سويسرا والنرويج والدنمارك والنمسا وغيرها من الدول الديموقراطية، التي تعتبر الأكثر تقدما والأفضل في السلم الاجتماعي، والأفضل للعيش، والتي وصلت إلى درجة عالية من التسامح الديني والتنوع الثقافي، في حين بقي الشرق الأوسط ميدان لحروب طاحنة وشعوب تكفر بعضها البعض، ومليارات تصرف على التسليح وملايين من الجنود تحث السلاح مخافة عدو وهمي مخالف في المذهب أو الدين.
المشهد عند المسلمين لا يخرج عن تلك القاعدة، فالإسلام كدين توحيدي يؤمن اتباعه أنه الحق لا غيره، ولذا كان تركيز النبي في حياته على إدخال متعددو الآلهة من العرب في الإسلام ونجح في ذلك كثيراً، ولم يدخل في حروب مباشرة مع الديانات التوحيدية الأخرى، بل أرسل اتباعه إلى إثيوبيا ذات الدين المسيحي لحماية المسلمين من بطش قريش، بالمقابل لم يعتدي على اليهود كأصحاب ديانة وكان هناك ثلاث طوائف منهم في المدينة، ولم يحدث تهجيرهم إلا بعد إظهارهم الخيانة في غزوة الخندق وليس لأنهم يهود، ولكن لماذا تتركز معظم الحروب الدينية والمذهبية في الدول الإسلامية من طنجة إلى جاكرتا؟.
يلاحظ أن القرآن ككتاب سماوي ثابت النص متغير المعنى تبعا للزمان (تكفل الله بحفظه) له إعجاز لا يوصف، وهذا النص عادة ما يكون مجملا لقواعد عامة ولا يتدخل في التفاصيل التي تبقى رهينة تفسير الزمان والمكان، ولذا كسب الديمومة، ولأهمية الكتاب المنزل دون سواه، شجع النبي والخلفاء الراشدين على عدم تدوين السنة وآراء الصحابة في حياتهم بل لأكثر من مئة سنة لم ترد أي تدوين لها.
لقد شاع تدوين الأحاديث والتراث المنقول والمدون بعد منتصف القرن الثاني للهجرة، وتتسم الأحاديث المنقولة بالدخول في تفاصيل كثيرة خاضعة للزمان والمكان، بل هناك أحاديث متنوعة في مصداقيتها من صحيح إلى حسن إلى أحاد إلى ضعيف إلى مقطوع أو موضوع، وتحديد ذلك أوجد مذاهب كثيرة كل له رأي ومنهجية مخالفة تبعا للاجتهاد والخلفية الثقافية والاجتماعية، ودرجة توفر المعلومة، وكل ذلك خلق خلافات واضطرابات وقلاقل في عموم أراضي المسلمين أينما حلو وحتى للذين لا يلتزمون بتعاليم تلك المذاهب.
كما أن الانقسام الكبير للمسلمين بعد حادثة الفتنة الكبرى أوجد جذور لكل المذاهب الحالية، ولكن من ناحية التقدم الحضاري والفكري يمكن تبين مجموعتين رئيسيتين وهما مذهب أهل النقل: الحنابلة ومالكية أهل المدينة، ومذهب أهل العقل الأشاعرة (المالكية المغاربية والشافعية) والإباضية والمعتزلة.
رغم اتفاق أهل النقل والعقل على أن القرآن محفوظ ربانيا من التغيير والتبديل وأن السنة دونت متأخرة فيها الصحيح والضعيف والموضوع إلا أن الاختلاف يأتي من أمرين، أهل العقل يرون أن القران ثابت النص متغير التفسير عبر الزمان والقرآن يفسر بعضه والسنة يسترشد بها، في حين أن أهل النقل يرون أن السنة هي التي تفسر القرآن وأنها على درجة واحدة من القرآن وأنها قابلة للتطبيق عبر الزمان والمكان، وهو ما فتح الباب على مصرعيه لنقل آلاف الأحاديث بعنعنة طويلة والتعويل عليها في مذهب دون آخر، الأمر الذي أدى إلى ظهور مذاهب كثيرة داخل المجموعة الواحدة، ولتوضيح الفرق بين المجموعتين يمكن وصف رأي أهل العقل بأنهم يرون أن التفاسير التراثية للدين (من تفاسير قديمة للقرآن والأحاديث النبوية وسيرة الصحابة) هي متحف للأدوية استفاد منها أهالي تلك العصور لشفاء مرضاهم وتقويم حياتهم، ويعترف بها اللاحقون بأنها تراكم معرفي فيها ما ينفع وفيها ما ثبت عدم جدواه، ولكن على أهل العصر أن يبحثوا عن طرائق جديدة لتفسير القرآن والاستنارة بالتراث تتناسب مع متغيرات عصرهم تبعا للتراكم المعرفي السابق، وتطور العلوم المختلفة.
بالمقابل يعتقد أهل النقل أن ذلك المتحف هو الصيدلية التاريخية، ثابتة مفعولها عبر الزمان والمكان، ولها القدرة على علاج أوجاع وتخلف وانحطاط الحاضر كما في السابق، إضافة إلى أن أهل النقل يتقمصون مضوية متخلفة لإنكار التقدم العلمي الإنساني، والمطالبة بالرجوع إلى ظروف المكان والزمان الذي أنشئ فيه ذلك المتحف أو الصيدلية، أو البحث عن وسائل للرجوع إلى تلك الحقبة الزمنية التي حدثت في ظروف لا تتكرر، ولذا تيار النقل معاق التفكير ومعيق لحركة المجتمع نحو التغيير للأفضل.
الدراسات الحديثة للدين، تؤكد النهج العقلي، وأن تقعيد الدين يخضع لظروف جغرافية واجتماعية كثيرة، وأن الدين ليس من عناصر الهوية بل هو انتماء كغيره من الانتماءات الجغرافية والفكرية، وهذا عمل على ظهور التدين الآسيوي، والخليجي، والمصري، والليبي وحتى الأوروبي، وفي كل من طرق التدين السابقة، تجد اتفاق في الأصول الدينية وأركان الإسلام مثل الصلاة والصيام والزكاة، ولكن هناك اختلاف كبير في التفاصيل، والسبب في ذلك أن كل أمة يدخل الدين إلى حياتها، لا يتبعه تغيير ثقافي كبير، أي لا تغيير في عاداتها وتقاليدها وشخصيتها السابقة، بل تتحور الكثير من عاداتها واعتقاداتها إلى أشكال تتوافق مع التعاليم الجديدة، وهذا يفسر انتشار مذهب دون آخر في مناطق جغرافية مختلفة، فالليبيون بمذاهبهم العقلانية المالكي المغاربي والإباضي مثلا لهم تقارب كبير مع التدين المغاربي: التونسي، والجزائري والمغربي والذي تطور عبر العصور، وهو مختلف كثيرا عن التدين المشرقي أو الآسيوي، وبالمثل المذهب الحنفي ينتشر كثيرا في الشرق الأدنى والأقصى، والشافعي في مصر والشيعي في إيران ولبنان وأفغانستان واليمن، ولكن ما هي مظاهر هذا التدين المغاربي؟ التدين المغاربي عقلاني في أساسه، سواء كان مصدره مالكية مغربية، تعود إلى تفسير ابن رشد والشاطبي، أو المذهب الإباضي الذي هو عقلاني من يوم نشؤه، نرى النزعة إلى الحرية، ووضع ولاة الأمور في مكانهم كخدام للأمة والخروج عليهم كلما حادوا عن الصواب، والشعائر تغلب عليها الفطرة، كما أن المسحة الصوفية المسالمة للتدين واضحة مثل إحياء الموالد، وترديد الأناشيد في مدح الرسول، إلى الإقرار بوجود الأولياء الصالحين والعناية بالمزارات الدينية وزيارتها وإضاءة مبانيها، والاعتقاد بأنها أرض طاهرة يكون الإنسان أقرب إلى ربه على جنباتها، فيستجيب الله دعاء المريض أو طالب الحاجات، إضافة إلى مآرب أخرى كثيرة، منها أن الزيارة الجماعية تعطي فرص للتعارف بين العائلات وإيجاد صلات عائلية بينهم وأن المكان متنفس الاجتماعي من الضغوطات اليومية. وأن هذه المزارات في المناطق المغاربية والليبية النائية يجد فيها المسافر المأوى والمؤن ومكان يتقي فيه حرارة الصيف وبرد الشتاء.
من وجهة نظر، علم الاجتماع الديني، فإن عقائد الإنسان تتأثر بموقفه الاجتماعي ومستواه المعرفي والاقتصادي والسياسي، ولذا التعدد يعد في صلب المنظومة الدينية الواحدة، المستشرق جاد بيرك يقول إن الإسلام تمزغ أكثر مما أسلم الأمازيغ، وهو يعني أن الإسلام القادم من الشرق تم ضبطه اجتماعيا ليتلائم مع الظروف المحلية لسكان شمال أفريقيا، ولم تتحول عادات وتقاليد الأمازيغ لتلائم ثقافة الجزيرة، وهو ما تسعى إليه المجموعات الوهابية خلال العقدين السابقين دون جدوى.
الغريب في الأمر أن الأوقاف الليبية بتشكيلتها الإدارية منذ 2012 إلى الآن تسعى لتغيير ثقافة وشخصية الدولة الليبية بجعل المذهب الحنبلي هوية للدولة، وإزالة أي مذاهب أخرى لها أكثر من أربعة عشر قرنا على هذه البقعة من الأرض، وفي سبيل ذلك تجند آلاف الشباب لتعلم قواعد المذهب الحنبلي ضمن برامج العمرة والحج، وتمكينهم بالمساجد كخطباء يرددون تعاليم المذهب الحنبلي باسم السلفية، بل أن هناك أكثر من 30 إذاعة على أف إم كلها تعمل جاهدة لنشر مادة دينية لعلماء المذهب الحنبلي مثل ابن باز وابن العثيمين والألباني وغيرهم، رغم خفوت الحركة السلفية في السعودية إلا أنها نشطة في ليبيا باستحواذها على هيئة الأوقاف ذات الملايين من ميزانية الدولة وأموال الوقف، والملاحظ أن سباقها المحموم لتحويل الليبيين إلى المذهب الحنبلي أوجدت فتاوى كثيرة لتبديع كل العادات والتقاليد الليبية بل قامت أخيرا بتكفير مكون أصيل في الشعب الليبي.
رغم الفوضى التي نشرتها الأوقاف على مدى عشرة سنوات من رفض الانتخابات وتبديع المجتمع وتكفير الكثير منهم إلا أنها حالة شاذة ستنتهي قريبا وسيعلم أتباعها أنهم مغرر بهم كما حدث للعرب الأفغان الذين قاموا بإسقاط الاتحاد السوفيتي نيابة عن الأمريكان ولا زالت أفغانستان في تأخرها وتناحرها وإسلامها المتخلف الذي تزعمت السلفية بناءه على أفكارها، فهل تتغير إدارة الأوقاف لتكون ليبية أم يتغير الليبيون بفعل إدارة الأوقاف ليكونوا سلفية دواعش؟.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً