الترتيبات الأمنية الجديدة تعتبر خطوة جيدة في الطريق الصحيح، هذه الإجراءات يمكن أن تكون منذ زمن بعيد عندما أصدر المؤتمر الوطني العام قراري 27 و 53 لسنة بخصوص إخلاء العاصمة من جميع التشكيلات المسلحة، هذه المجموعات لا شك أن البعض منها قد ساهم في قلب النظام السابق من خلال المشاركة في ثورة 17 فبراير سنة 2011م، ومعظمها شاركت في استثبات الأمن في العديد من مؤسسات الدولة في غياب الجيش والشرطة. إلا أن التوسع في إنشاء المجموعات المسلحة وإنقسام بعضها إلى مجموعات كثيرة وتعدد مشاربها بين جهوية وأخرى ذات توجهات أيديولوجية حال دون التحكم في تصرفاتها. ما زاد الأمر سؤا الإنقسام السياسي علي مستوى الدولة بثلاث حكومات منها إثنان في طرابلس، وهذا ما أعاق حتى تنفيذ حتى البند 39 من الإتفاق السياسي المختص بالترتيبات الأمنية بطرابلس.
وحيث ان التشكيلات تم إنشائها على مدى 6 سنوات وتبعيتها ليست لجهة واحدة وبذلك لا توجد إدارة للتحكم والسيطرة لكل هذه التشكيلات كان لزاما أن يكون هناك العديد من التصرفات المشينة لبعض افرادها، منها ما يخص المواطن مثل عدم التصرف بمهنية ومنها ما يخص الإنضباط في العمل، إضافة إلى إستغلال البعض للسلاح لتنفيذ أعمال إجرامية مثل الإبتزاز والإختطاف والتعدي على أملاك الدولة، أخرها محاولة الإستلاء على مؤسسة الإصلاح بالهضبة.
التشكيلات المسلحة في طرابلس ربما تختلف كثيرا عن مفهوم المليشيات المتعارف عليه، حيث ان البعض منها مثل قوة الردع المعروفة بسطوتها ضد المجرمين والمهربيين وتجار المخدرات لها كوادر تقوم بالتحقيق والتحري، ولها فرق للقبض وسجن معد بوسائل تعليم وتدريب مهني لإعادة التاهيل، إلا أنها لا سيطرة حقيقية للدولة عليها وهو ما يجعلها تحت بند المليشيات، وبذلك فإن تحويرها بتغيير قياداتها يجعلها مؤسسة من مؤسسات الدولة الحرفية.
الترتيبات الأمنية المنوه عنها في إتفاق الخميس 16 مارس تم وضعها لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية أولها إيقاف إطلاق النار، ثم الشروع في تنفيذ البند 39 من إتفاق الصخيرات والخاص بإعادة تموضع المجموعات المسلحة خارج العاصمة في خلال ثلاثون يوما، والمرحلة الأخيرة إعادة تقييم وتنظيم وإدماج المجموعات المسلحة. ولقد برهن الشارع الطرابلسي أنه مع الإتفاق لإخراج التشكيلات المسلحة من العاصمة وتفعيل الجيش والشرطة في مظاهرة كبيرة خرجت يوم الجمعة السابع عشر من مارس، وكأي حراك جماهيري شعبي هناك من يحاول إستغلاله وإستثماره، ومنها مجموعة الكرامة التي تحاول جر الجموع إلى التسويق لمشروع حفتر، وهناك مجموعات أخرى أخذتها حمية الجهوية دون قراءة جيدة للإتفاق بأن نادت بعدم تمكين أي قوات من خارج العاصمة لتتواجد داخل المدينة في زمن لا بوادر سريعة لتفعيل الجيش.
أولى نتائج هذه الحملة خروج حكومة الإنقاذ من المشهد السياسي بوزرائها ومقراتها وفرقها العسكرية، وأسدل الستار نهائيا عن المؤتمر الوطني العام المشرعن لها، وبذلك أزيحت حكومة من الملف الليبي لتصبح الحكومة المؤقتة في البيضاء الهدف القادم لإقصائها من أجل توحيد مؤسسات الدولة الليبية، وبذلك ينتهي الحوار الليبي الليبي ويبقى إتفاق الصخيرات هو المخرج الوحيد للإنهيار الإقتصادي والأمني في ربوع ليبيا.
أما النتيجة الأخرى والمهمة فهي تقليص عدد التشكيلات المسلحة التي يتجاوز عددها الخمسة والعشرون مجموعة إلى ما يقارب أربعة مجموعات كبيرة، وبذلك يمكن تأهيل بعضها ومراقبتها وتوزيع المهام بينها وتحويلها من مجموعات غير منضبطة إلى رجال أمن وجيش بمهنية عالية، وهو ما يحتاج إلى جهد كبير من وزارة الدفاع وأركاناتها.
نقطة الخلاف في إتفاق الخميس 16 مارس يتمثل في تعريف وضع طرابلس كمدينة وكعاصمة، فكان رأي المشاركين في الإتفاق وهم المجلس الرئاسي والحرس الرئاسي ووزير الدفاع وعمداء البلديات، أن تأمين الأجهزة السيادية تشارك في حمايته فرق مسلحة من مدن أخرى وعلى رأسها مصراته، في حين أن بعض التشكيلات الطرابلسية وعلى راسها كتيبة ثوار طرابلس ترفض أن يكون هناك تشكيلات من خارج طرابلس لتامين المؤسسات السيادية أو فروع مديرية الأمن بطرابلس الكبرى.
من الواضح أن هناك إنقسام وعدم ثقة بين شقي المجموعات المسلحة المتواجدة في طرابلس وخاصة بعد بروز الدور المصري لمحاولة تقريب وجهات النظر بين حفتر وبعض المجموعات المسلحة المتواجدة بطرابلس، مما يبين إنتقال الحل في ليبيا (تبعا للسياسة المصرية) من المؤتمر والبرلمان والحكومات إلى العسكريين في الشرق والغرب الليبي، وهي محاولات لن تفضي إلى حل سلمي ما لم يتم الرجوع إلى إتفاق الصخيرات، والبعد عن محاولات تمكين حفتر من الحكم، وذلك لسبب واضح أن إثنان وعشرون فصيل قد أصدروا بيانا للتنديد بمحاولة تسويق مشروع حفتر خلال مظاهرة الخميس الماضي، إضافة إلى حالات القتل للعزل والتمثيل وحرق الجثث في بنغازي من أفراد جيش الكرامة، والتي شجبها وإستهجنها الجميع، وأصبح الكثيرين لا يجدون فرق بين قوات حفتر والمجموعات غير منضبطة في أماكن أخرى.
رفض أهالي طرابلس لإستمرار إعتماد الدولة على المجموعات المسلحة لفرض الأمن، يجب ان يعقبه الكثير من العمل السياسي من المجلس الرئاسي، أولاهما تشجيع المنخرطين في هذه المجموعات على بيع سلاحهم للدولة وإيجاد عمل لهم بالمؤسسات المدنية، ومواصلة الجهود لدمج المجموعات المسلحة الصغيرة في المجموعات الأكبر، والإسراع في تكوين ودعم جهاز المخابرات العامة الذي يكون تبعيته مباشرة للحكومة، هذا الجهاز يساعد على جمع المعلومات وفرض الأمن من ناحية وإعداد برامج للتعامل مع المجموعات الخارجة عن القانون أو المنحرفة عن الإتفاق، وكذلك الحد من التدخل الخارجي في شئون الدولة. يعقب ذلك تغيير قيادات المجموعات سلميا عن طريق تعيين البعض منهم كملحقين عسكريين في الخارج، ويمكن الإستفاذة من التجربة الجزائرية إبان تولي بوتفليقة الحكم وعقب العشرية الدموية، والتي تبنت سياسات تحفيزية من ناحية وأمنية من ناحية أخرى للقضاء على التشكيلات المسلحة الخارجة عن القانون. وأخيرا فإن أمن العاصمة كفيل أن يسبغ الأمن على الكثير من ربوع ليبيا، إذا إستطاعت الحكومة بسط نفودها وتوفير الحاجات الضرورية للمواطنين.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً