المصالحة بين النظرية والتطبيق
الظروف الراهنة التي تعيشها ليبيا اليوم لا يمكن أن تسمح لنا بالنظر إلى المصالحة وكأنها من الترف وفضائل الأخلاق فقط بل هي من الواجبات المفروضة علينا اليوم شعباً ودولة.
بالرجوع لقرآننا العظيم نجد أن سورة الأنفال تبدأ بأمرين أولهما بتقوى الله سبحانه (فاتقوا) ثم بالإصلاح (وأصلحوا ذات بينكم) وبغض النظر عن أصل المشكلة المرتبطة بأدوار تقسيم الغنائم التي كانت من أسباب نزول الآيات إلا أنه يظل الاختلاف طبيعة إنسانية لا يمكن التخلص منها، وامزجة البشر مختلفة بل ومتباينة بدرجات، لذلك فالتدخل بالإصلاح نظريا هو الذي يوقف تمدد الظلم وتفاقمه وبدون أن ننسى التذكير بتقوى الله وطلب رضاه. أما التطبيق فلا توجد له آلية واحدة أو أسلوب أحادي للتطبيق، لذلك يظل التنظير هو ما يفسح المجال للفكر بالتدبر والنظر في الوسائل المتاحة لتحقيق المصالحة وتظل تقوى الله هي صمام الأمان لأي مصالحة حقيقية، ومقياس التقوى عند الله وحده سبحانه.
في سورة النساء يبدأ كلام الله عز وجل بالحديث عن المصالحة في الآية رقم 114:” لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة، أو معروف أو إصلاح بين الناس” ويقول رب العزة في سورة الشعراء: “وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير ..” وبغض النظر عن طبيعة النشوز الذي قد يحصل بين المرأة وزوجها فالنشور والإعراض قد يحصل بين الدولة والشعب وهنا لا نستطيع أن نحدد الخوف من الدولة أو الشعب، فالكاتب يرى بأن الخوف من الإهمال والنشوز قد يكون من الطرفين. وهنا تتدخل آلية الإصلاح بهدف تحقيق المصالحة بين الشعب والدولة بعد أن بدأت تتزعزع الثقة بينهما. ولعمري اليوم باتت الثقة مفقودة بين الدولة وبين أطراف متعددة من الشعب الليبي. فإقحام الاختلافات القبلية، والعرقية، واللغوية، والمذهبية، والفكرية، والسياسية في الحرب الأهلية ساهم في قطع أجبال الوصل والتواصل الاجتماعية بين أطراف الشعب الليبي. وتقع المسؤولية على الدولة فهي التي تغذي الحرب بالسلاح والمال وقد ساهم ذلك في زعزعة الثقة في الدولة بل وغابت في احياناً كثيرة. وكان ذلك وراء انقسام الشعب إلى طائفتين تقتتلان بسبب الدولة. وهنا يحضر قول الله سبحانه: “وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت أحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما” سورة الحجرات آية 9.
تعدد أوجه الإصلاح والمصالحة:
مع أن الغاية والنتيجة المطلوبة لاستقرار الشعب الليبي هي المصالحة مع وبين الجميع. إلا أنه لا يوجد أسلوب أحادي أو طريقة محددة للوصول للمصالحة وذلك بناءً على اختلاف الأطراف المتخاصمة ومن كان وراء الدفع أو تشجيع الجلادين على ممارسة العنف ضد الضحايا. ومع أن المسؤولية تقع على عاتق الدولة بالدرجة الأولى إلا أن الأمر يحتاج إلى تفصيل أدق لتحديد المسؤوليات المتداخلة، والمتناقضة أحياناً، والمتباينة في نفس الوقت، وعلى النحو التالي:
- مسؤولية الدولة عن ممارسة العنف وما يترتب عليه من ضحايا. وهذا ممكن أن ينقسم إلى ما يلي:
- استخدام سلطة الدولة في الانتقام من فرد.
- توظيف سلطة الدولة لمعاقبة أصحاب التوجهات السياسية المختلفة مع سلطة الدولة.
- ترسيخ سياسة “فرق تسُد” يتم بنبش النزاعات القديمة بين القبائل أو المدن، وحتى المناطق، لتصل أحياناً لصناعة حرب تكون نتيجتها ضحايا أبرياء.
- مسؤولية الفرد عن ارتكاب جرائم بحق شخص أو مجموعة. فعندما يستغل أحدهم منصبة الأمني في ممارسة العنف والتعنيف، بل والذي قد يصل للتعذيب، والذي قد ينتهي بموت الضحية! فأين كانت النتيجة فالمسؤولية هنا فردية وتعالج بشكل فردي مع الجلاد.
المصالحة بتقصي الحقائق والكشف عن الحقيقة
الوصول إلى الحقائق من دعامات المصالحة، وهذا واضح كخطوة الأولى على درب العدالة الانتقالية، ومع أنها تعتبر حجر الأساس في مشوار المصالحة الطويل فأنه مع إجراءات الكشف عن الحقيقة سيحقق المجتمع الليبي جملة من الأهداف التي ستساعد على الاستقرار والوصول إلى التصالح بين فئات الشعب الليبي بمختلف قبائله ومدنه وتنوعاته اللغوية، والعرقية، والمذهبية، والفكرية، وحتى السياسية. وتتلخص هذه الأهداف والتي هي دعامات للمصالحة في النقاط التالية:
- أول هدف من تقصي الحقائق هو الحرص على عدم تكرار الممارسات الظالمة وخاصة من الدولة ضد الشعب، وتجنب العودة للعنف وقهر المدنيين.
- بمعرفة الجاني وإقراره بالجريمة يتخلص المذنب من تأنيب الضمير ويحقق نوع من التنفيس عن الضغوط المكبوتة بداخلة والشعور بالارتياح النفسي ولو بشكل نسبي.
- تخليص أهل الجاني من الحيرة والوساوس عن مصير ضحيتهم فبتجميع تلك المعلومات الغائبة ستذهب الوساوس والظنون وبالنهاية سيكون التسليم إلى الله بما حصل، وطلب جبر الضرر إما مادياً ومعنوياً.
- ضرورة التوثيق والذي ستفيد منه الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، بمختلف تخصصاتها القانونية، والاجتماعية، والنفسية، والسياسية، فمن أرشيف تقصي الحقائق يمكن دراسة ظواهر ممارسة عنف وظلم الدولة، منذ تأسيسها عام 1951 إلى يومنا هذا، ضد الشعب وتحليلها بهدف الوصول إلى الثغرات السياسية، والتشريعية القانونية أو الإجرائية التي تسببت في ذلك.
التأسيس للمصالحة
كثر استخدام مصطلح المصالحة، بل قد لا نبالغ لو قلنا تم استهلاكه بشكل فج ونحن نلوكه في مناسباتنا ولقاءاتنا المجتمعية، وحتى السياسية، إلا أن ما يُطرح اليوم هو التأسيس للمصالحة بحيث يتم الشروع في رصد الانتهاكات التي اقترفتها الدولة الليبية ضد الشعب الليبي منذ تأسيسها عام 1951 إلى اليوم وتترك القضايا والشكاوى الشخصية للقضاء مع استقرار الدولة.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً