باعتباره أحد أبرز قادة الحرب على ليبيا في 2011، لم يتردد الأمير القطري حمد بن جاسم بمؤتمر مساندة ليبيا في باريس 2011 في إصدار أوامره للمليشيات الليبية بأن “لا يسلموا السلاح حتى يطمئنوا على ثورتهم”! وكان الأمير واثقاً من ولاء تلك المليشيات أكثر من ولائها لبلدها، وواثقاً من قدرة الحملات الإعلامية المكثفة لشبكة الجزيرة على تحويل أولئك الثوار إلى فئران مذعورة تنخر رؤوسها هُذاءات “البارانويا” وأوهام الثورة المضادة، وأن عودة استقرار البلاد والسلام سيقتلهم… ومنذ ذلك الحين- ورغم الإعلان عن انتهاء الحرب- والثوار يتأبطون سلاحهم ويطاردون شبح الطمأنينة وأوهام البارانويا؛ ولم يترددوا في تهجير مدن وقرى بأسرها واجتياح مدن وقرى أخرى وفرض قوانين العزل والإقصاء ولجان للنزاهة واعتقال عشرات الآلاف من المواطنين واغتيال النشطاء والحقوقيين وضباط وأفراد الجيش والشرطة وإحراق المطارات وتدميرها وإيقاف تصدير النفط وحرق خزانات الوقود والموانئ النفطية، ولازالت حروب المليشيات الليبية المذعورة مستمرة، ولم يطمئن “الثوار” بعد…!
لقد تم تقاسم الأدوار… واقتصرت مهمة قوات التحالف الدولي “الناتو” على تدمير المؤسسات الأمنية والعسكرية والقضاء على الجيش الليبي، والعمل على تسليح ودعم المليشيات المسلحة، لتنتهي مهمتهم بقتل القذافي، لتتولى من بعدهم المليشيات القبلية والجهوية والدينية إنهاء المهمة، لإشاعة الفوضى واستنزاف وسرقة أموال الدولة في الداخل والخارج، وتدمير ما بقي من مؤسسات ومرافق حيوية في ليبيا، لتنتهي المهمة بالتدمير الذاتي لهذه المليشيات والتخلص من سلاحهم ومقاتليهم عن طريق إشعال فتيل الحرب بينهم ليقتلوا ويدمروا بعضهم بعضا. ويبدوا أنه مثلما نجح سلاح “البارانويا” كأحد أسلحة الحرب غير التقليدية في العراق عن طريق صناعة المظلوميات الدينية والعرقية والجهوية فقد كانت إعادة ذات السيناريو في ليبيا أكثر متعة واحترافية.
يقول أستاذ علم النفس الدكتور قاسم صالح، ضمن دراسته للحالة العراقية: إن البارانويا السياسية إذا طبخت على نار الطائفية والقبلية والعرقية صار شفاء أصحابها قريبا من المستحيل … بينما اتفاقهم هو المستحيل بعينه… والمشكلة أن البارانويا السياسية بين الفرقاء سريعة العدوى والانتشار بين الغالبية المأزومة والمتقبلة للإيحاء… ويضيف: إن المصاب بالبارانويا أو جنون الاضطهاد والارتياب يتمتع بمهارة درامية في تجسيد دور الضحية وقدرة عالية في إقناع الآخر بأن أوهامه حقائق ثابتة”(1)
متأخراً أدركت النخب العراقية بأن قوات الاحتلال عملت وبشكل ممنهج على اختلاق تنين المظلوميات المتناحرة، الشيعية والسنية والكردية وغيرها لتنخر دودة البارانويا العقل الجمعي العراقي ويسهم جنون الارتياب بتأجيج الصراع والاقتتال ما بين أبناء العراق وبإعادة رسم الخارطة العراقية الجديدة. وهو ما يحدث اليوم في ليبيا الجديدة بعدما تلاشت أوهام النسيج الليبي المتجانس، وبعد أن أثبت سلاح البارانويا نجاعته وفاعليته لإنهاك الخصوم بل وتدميرهم ودون أن يخسر الأعداء رصاصة واحدة.
يعتقد الكاتب الأمريكي ديفيد اغناتيوس David Ignatius في مقال له نشر في “الواشنطن بوست Washington Post” في ديسمبر 2014 أن “سلاح البارانويا Paranoia”هو الأفضل ضد تنظيم الدولة الإسلامية. بعدما أشيع بأن تنظيم “داعش” قتل العشرات من مقاتليه بسبب ارتيابه في أنهم كانوا جواسيس للغرب. ويضيف اغناتيوس: إن مثل هذه العمليات غير التقليدية تحمل تكاليف أقل بكثير من حيث المال والأرواح … وبدلا من الاعتماد على إطلاق الأعيرة النارية من طائرة “أباتشي”(الأمر الذي غالبا ما يخلق أعداء بقدر ما يقتل)، بإمكان “البارانويا Paranoia” ــ كسلاح غير تقليدي ــ دفع العدو نحو مهاجمة نفسه بنفسه. (2)
ويذكرنا ديفيد اغناتيوس David Ignatius بشواهد تاريخية استخدمت فيها أمريكا (سلاح البارانويا أو جنون الارتياب) لسحق أعدائها وتدميرهم دون أن تخسر رصاصة واحدة، ومنها: “ما حدث في أواخر ثمانينات القرن الماضي، عندما انهارت منظمة “أبو نضال” جراء مشاحنات داخلية أججتها الاستخبارات الأميركية والبريطانية والأردنية. وذكر عنوان رئيسي لصحيفة “نيويورك تايمز” في نوفمبر: أن “العرب يقولون إن الصراع على السلطة قسم جماعة أبو نضال الإرهابية”. بيد أن هذا الانقسام لم يكن وليد الصدفة، حيث أخبرتني مصادر بأن أعضاء الجماعة الإرهابية تم تسريب معلومات إليهم دفعتهم للتشكك في أقرانهم واتهامهم بسرقة أموالهم وأصدقائهم وسلطاتهم. وفي نهاية الأمر، دمرت الجماعة نفسها بنفسها.”(3)
في الحالة الليبية، وفي جحيم هذه الحرب العبثية، لا يهم مدى دقة وواقعية نظرية المؤامرة، ولكن المؤكد أنه ليس هناك بشر أسوياء يمكن أن يفعلوا ما يفعله الليبيون بوطنهم وأهلهم. وأن هؤلاء المتحاربون بالفعل يعانون من بارانويا مزمنة لن تفتك بهم وحدهم بل بليبيا بأسرها. ومن المؤسف أن يدرك الليبيون أنهم وبلدهم هم مجرد ضحايا لمليشيات مسلحة من المرضى الذين يعانون جنون الارتياب وأوهام الاضطهاد وأن مدنا بأكملها أصبحت في قبضة البارانويا وجنون الاضطهاد والعظمة، مما دفعهم لتهجير جيرانهم بسبب الأوهام التي تسيطر على عقولهم بأنهم مستهدفون ويكرههم الجميع فقط لأنهم ينتمون لمدينة أو قبيلة ما، لذلك آمنوا بأن عليهم أن ينخرطوا وبكل شرائحهم في حروب إبادة وتهجير لكل من يختلف معهم…!
وقبل أن يدخل “البارانويد الليبي” التاريخ كأحد النماذج المَرَضِيّة المأساوية التي لن تُنسى، لشعب بأسره تحول إلى قطعان مذعورة قتلت بعضها بعضا ودمرت بلدها بسبب هُذاءات جنون الاضطهاد والعظمة التي سيطرت على جماعات ومدن بأسرها، علينا أن نتحلى بالشجاعة الكافية لمواجهة أمراضنا وعلاجها، بدل التماهي مع هذا الجنون والتورط في حرب الجميع ضد الجميع.
فإننا إذا ما استمررنا في هذا التعنت وتناول الدواء الخطأ وإنكار وتجاهل أمراضنا الحقيقية ومحاولة علاجها فإنه أبداً لن تتوقف هذه الحروب، ولا جرائم الاغتيالات، والتهجير الجماعي، والتدمير الممنهج لمؤسسات الدولة ومرافقها الحيوية واستنزاف ثرواتها وإفقار شعبها وتشريده، ومن المستحيل كذلك نجاح أية مساعٍ للحوار أو المصالحة أو الوصول إلى حالة من التوافق بين فرقاء هم حقيقة مرضى يعانون من جنون الارتياب والشك في كل من حولهم، خصوصاً مع تزايد الحملات الإعلامية والنفسية المكثفة التي تتلاعب بوعي هؤلاء المرضى وتعمل على تشكيل إدراكهم كيفما شاءت سلطة الميديا والتي حولتهم إلى وحوش مذعورة ومذعنة للخرافات والأوهام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* محمد اقميع | سبق نشر المقال في بوابة الوسط | 15 يناير 2015
هوامش المقال:
(1) قاسم حسين صالح، المجتمع العراقي -تحليل سيكولوجي لما حدث ويحدث، الدار العربية للعلوم ناشرون والمجلس العراقي للثقافة.
(2) David Ignatius: Washington Post، http://www.washingtonpost.com/opinions/david-ignatius-paranoia-could-be-the-best-weapon-against-the-islamic-state
(3) ديفيد اغناتيوس David Ignatius، نفس المصدر السابق.
جميع المقالات والأراء التي تنشر في هذا الموقع تعبر عن رأي أصحابها فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
لا فض فوك مقال رائع ويشخص الواقع وحقيقة المؤامرة