تُعتبر الاستثمارات الخارجية لأي دولة رافداً مهمًا لخلق الثروة، وتقوية ودعم الاقتصاد الوطني، كما أنها تمنح الدولة قوةً سياسيةً ووزنًا سياسيًا على الساحة الدولية، إذ تُعدّ الاستثمارات أداةً من أدوات تنفيذ وتحقيق أهداف السياسة الخارجية، وتحرص الدول الغنية دائمًا على الاستثمار خارج حدودها في دول يتوفر فيها الأمن والاستقرار وقوة القانون، والحوافز المشجعة من رخص الأيدي العاملة، وتوفر المواد الخام، وانخفاض الضرائب، وغيرها.
وقد حرص نظام القذافي على الاستثمار في أفريقيا وضخ مليارات الدولارات في مشروعات مختلفة من مزارع ومصانع وفنادق وغيرها من الأنشطة الاقتصادية، ورغم أن البعض ينتقد سياسات النظام السابق المتعلقة بالاستثمارات الليبية في أفريقيا بأن غالبية المشروعات التي تم الاستثمار فيها كانت لأهداف سياسية، وأنه لا جدوى اقتصادية من وراء ذلك، إلا أنه من الخطأ تعميم هذا الرأي على كل الاستثمارات الليبية في أفريقيا، فهناك مشروعات ناجحة، كما أن هذه الاستثمارات من مزارع ومصانع وفنادق وغيرها تُعدّ من الناحية الاقتصادية أصولًا للدولة الليبية ولها قيمة سوقية، وهناك فرص للاستفادة منها إذا توفرت الإرادة السياسية بعيدًا عن منطق المغالبة والغنيمة وصراعات القوى السياسية في ليبيا.
مثّلت الفترة من عام 2011م بعد سقوط نظام القذافي وحتى يومنا هذا فترةً حرجةً بالنسبة للاستثمارات الليبية في أفريقيا، حيثُ شكّل الانقسام السياسي والصراعات والحروب حالةً من الضعف للدولة الليبية، مما أدى إلى تجرؤ بعض الدول والأشخاص على أموال وممتلكات الدولة الليبية في أفريقيا، وأصبح مصير بعض الاستثمارات مجهولًا، ونُهب البعض الآخر، وأحيانًا بتواطؤ أطراف ليبية، والأمثلة على ذلك كثيرة.
ونظرًا لأهمية الاستثمارات الليبية في أفريقيا، فإن حكومة الوحدة الوطنية قد أولت هذا الملف أهميةً قصوى، وبدأت تتحرك على الساحة الأفريقية، ففي 25 نوفمبر 2024م، وصل وفد حكومي ليبي برئاسة فتح الله الزني، وزير الشباب والمبعوث الخاص لرئيس حكومة الوحدة الوطنية إلى أفريقيا، ومصطفى أبو فناس، رئيس مجلس إدارة محفظة ليبيا أفريقيا للاستثمار، ومحمد محجوب، المدير العام لشركة لايكو، والتقى الوفد مع فرانسوا بوقولا، وزير الشباب الغيني، والهدف من هذه الزيارة هو التباحث حول استعادة مزرعة ليبية مملوكة لمحفظة ليبيا أفريقيا للاستثمار، وتُعتبر أكبر مزرعة في غرب أفريقيا بمساحة تبلغ 2150 هكتارًا، وقد صودرت المزرعة في عام 2020م بموجب مرسوم رئاسي غيني، إلا أن المحكمة العليا الغينية أبطلت هذا المرسوم مؤخرًا، مما يُمهّد الطريق لاستعادة ملكية ليبيا لها.
وفي 29 نوفمبر 2024م أيضًا، استقبل الأمين العام بوزارة التخطيط والتعاون الدولي في جمهورية غينيا وفدًا ليبيًا برئاسة مصطفى أبو فناس، رئيس مجلس إدارة محفظة ليبيا أفريقيا للاستثمار، وخلال اللقاء أكد الأمين العام بوزارة التخطيط والتعاون الدولي الغيني عن استعداد الحكومة الغينية لتقديم كافة التسهيلات لدعم الاستثمارات الليبية والمشروعات المشتركة.
قال مصطفى أبو فناس، رئيس مجلس إدارة محفظة ليبيا أفريقيا للاستثمار: “إن زيارة الوفد الليبي تأتي في إطار تعزيز استمرارية التعاون بين البلدين، وأن الوفد الليبي يضم مؤسسات تابعة للمحفظة متخصصة ومتواجدة بقوة في القارة الأفريقية مثل شركة لايكو التي تُدير مشاريع سياحية وزراعية في القارة، بالإضافة إلى شركة أولى إنرجي العاملة في قطاع الطاقة في 17 دولة أفريقية”.
وأضاف أبو فناس بقوله: “يجب مراجعة الاتفاقيات المتعلقة بالاستثمار بين البلدين وذلك لضمان العمل وفق أسس قوية وضمانات كافية بعد التقييم للتجربة السابقة”.
لا شك بأن هذه الجهود المبذولة من قبل المسؤولين الليبيين لاستعادة أملاك الدولة الليبية، والتي أثمرت عن توقيع اتفاق بين الوفد الليبي والحكومة الغينية لتسليم المزرعة المملوكة لمحفظة ليبيا أفريقيا للاستثمار، تُعدّ خطوةً إيجابيةً تليها خطوات ونجاحات أخرى تصب في مصلحة الدولة الليبية، وتعزز من سمعتها وهيبتها دوليًا وإقليميًا، وينبغي التأكيد على حقيقة هامة مفادها أن الاستثمارات الليبية في أفريقيا تتجاوز قيمتها المالية المقدرة بمليارات الدولارات وما تُدرّه من عوائد على الدولة الليبية إلى قضايا تتعلق بالأمن القومي الليبي، فمن ناحية يمكن الاستفادة من هذه الاستثمارات في سد نقص السوق المحلية من المواد الغذائية، خاصة السلع الاستراتيجية من الحبوب من قمح وشعير وغيرها، فمن المعروف بأن المساحة الصالحة للزراعة في ليبيا لا تتجاوز 2% من إجمالي مساحة ليبيا البالغة 1,756,000.000 كم²، وهذا ضعف من الناحية الاستراتيجية يمس الأمن الغذائي للشعب الليبي، لهذا فإن الاستثمارات الليبية في أفريقيا، خاصة في مجال الزراعة، تُحقق مكاسب كبيرة للدولة الليبية، وأفضل بكثير من الاعتماد على الاستيراد من الخارج، وليس خافيًا بأن ليبيا من الدول التي تأثرت بالحرب الأوكرانية نظرًا لاعتمادها على استيراد القمح والشعير وغيرها من الحبوب، ومن ناحية أخرى فإن الاستثمارات الليبية في أفريقيا تُرسّخ وتعزز مكانة الدولة الليبية في أفريقيا التي تشهد صراعات وتنافسًا محمومًا على موارد وثروات القارة بين الدول الكبرى، فمن غير المقبول أن تنشط الدول الكبرى وبعض الدول الأخرى في أفريقيا وتحوز على موارد اقتصادية هائلة، مثال ذلك الصين وروسيا والولايات المتحدة وبريطانيا وتركيا وإيران والإمارات وإسرائيل وغيرها من الدول التي دخلت إلى حلبة الصراع في أفريقيا، وتظل ليبيا، بوابة أفريقيا الشمالية، منشغلةً بصراعاتها الداخلية وهي تملك أدوات القوة الاقتصادية التي تُؤهلها لمنافسة الكبار في أفريقيا وضمان مصالحها الاستراتيجية، الكل يتسابق نحو أفريقيا، وصار من المألوف أن تُنظّم الدول الطامحة في موطئ قدم في أفريقيا منتديات ومؤتمرات للاستثمار في أفريقيا كل عام، وتدعو لها رؤساء دول القارة الأفريقية، وذلك من أجل تعزيز نفوذها وضمان مصالحها، الحقائق بالأرقام تُؤكد ماذا يحدث في أفريقيا؟.
لقد مضى الزمن الذي كانت فيه أفريقيا حكرًا على الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، واقع جديد رسمته الصين على خرائط الجغرافيا الأفريقية عندما بدأت في الزحف نحو أفريقيا واتباع سياسات التغلغل الناعم، ونفس الشيء فعلته روسيا وتركيا وكثير من الدول، ويبدو بأن الأمريكيين لم يُعِيروا اهتمامًا لما قاله الرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي في نظريته “الآفاق الجديدة”، وأن استفاقتهم على تنامي نفوذ الصين في أفريقيا جاء متأخرًا في أكتوبر عام 2007م عندما أعلنوا عن تأسيس الأفريقوم “القيادة الأمريكية العسكرية الخاصة بأفريقيا” في مدينة شتوتغارت الألمانية، الآن وبالنظر لما يحدث في أفريقيا يتضح صدق نظرية “الآفاق الجديدة” للرئيس الأمريكي جون كينيدي الذي قال في نظريته: “إن مستقبل أفريقيا سيترك أثرًا جديًا على مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية بصورة إيجابية أو سلبية”. تواجه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الأوروبيون من قوى الاستعمار التقليدي في أفريقيا منافسةً شرسةً من دول صاعدة في النظام العالمي، وأحد أهم معارك إعادة تشكيل النظام العالمي تجري على الأرض الأفريقية.
الصين الآن رسّخت وجودها في أفريقيا، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين والدول الأفريقية في عام 2023 نحو 282.1 مليار دولار، وبلغت استثمارات الصين في أفريقيا 40 مليار دولار في نهاية عام 2023م وفق تصريحات مساعد وزير التجارة الصيني تانغ ون هونغ، كما بلغت قيمة المشروعات التعاقدية للشركات الصينية في أفريقيا في خلال العقد الماضي حوالي 700 مليار دولار، تُفيد دراسة لمؤسسة ماكينزي الأمريكية عن وجود أكثر من 1000 شركة صينية نشطة في أفريقيا، وترفع مصادر أخرى العدد إلى 2500 شركة، 90% منها مملوكة للقطاع الخاص، وتتوقع نفس الدراسة أن تصل قيمة الأرباح المالية التي تجنيها الصين من استثماراتها وتجارتها في أفريقيا بحلول عام 2025م إلى 440 مليار دولار.
أما بالنسبة لروسيا، فهي منذ سنوات بدأت في مزاحمة النفوذ الغربي في أفريقيا، بهدف استعادة نفوذها وعلاقاتها أيام الاتحاد السوفييتي، وكسر العزلة المفروضة عليها من الغرب، واستطاعت من خلال صفقات الأسلحة وإلغاء الديون المستحقة على بعض الدول الأفريقية والبالغة 20 مليار دولار، وغيرها من الوسائل وأدوات القوة الناعمة، مثل هبات القمح والحبوب، والتواجد العسكري عبر مرتزقة فاغنر، أن تُرسّخ وجودها في عدد من الدول الأفريقية.
ولم تكن تركيا غائبةً عن مسرح الأحداث في أفريقيا، فقد ارتفع حجم التبادل التجاري بين تركيا وأفريقيا من 742 مليون دولار في عام 2000م إلى 9 مليارات دولار في عام 2005م، ثم إلى أكثر من 15 مليار دولار في عام 2009م، ليستمر في التزايد بما يصل إلى 25 مليار دولار في عام 2020م، وفي عام 2021م، ارتفع حجم التجارة بين تركيا وأفريقيا إلى 26 مليار دولار، ثم ارتفع ليصل إلى أكثر من 35 مليار دولار في عام 2023م، ومن المستهدف الوصول به إلى 40.7 مليار دولار في عام 2025م، لهذا نرى الأتراك مهتمين بترسيخ وجودهم في ليبيا والتواصل مع جميع الأطراف شرقًا وغربًا، فهم قد خبروا ليبيا وأهمية موقعها الاستراتيجي كبوابة نحو أفريقيا منذ أيام الدولة العثمانية.
كل ما سبق يُؤكد أيضًا بأن الدولة الليبية، رغم ما تُعانيه من انقسامات وضعف، لم تفقد كل أوراق قوتها، وأنها معنية بكل ما يحدث في أفريقيا من صراعات وتنافس بين الدول الكبرى، وأن مصالحنا ومجالنا الحيوي يمتد لأبعد من حدودنا الجنوبية عند الحدود الليبية مع تشاد والنيجر، وأن مفهوم أمن الأعماق يجب أن يكون ضمن أولويات سياستنا الخارجية ومتطلبات أمننا القومي، فلم تعد الأخطار التي تُهدّد كيان أي دولة هي تلك المرتبطة بحدودها فقط، بل أبعد من ذلك.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً