الإرتزاق ظاهرة ليست بجديدة، تزدهر في الأوساط القليلة الموارد والمنحطة حضاريا وأخلاقيا، حيث يدفع الشباب العاطل عن العمل أو الفاشل إجتماعيا إلى ركوب مخاطر الموت في دول لا صلة لهم بها سوى كسب المال السريع، وقد أوضح القانون الإنساني الدولي في المادة 47 بأن المرتزق شخص يتم تجنيده للقيام بأعمال عدائية من أجل الكسب المادي وهو ليس من رعايا أطراف النزاع. وبذلك فإن الإرتزاق قد يكون بحمل السلاح أو الإنخراط في المخابرات أو تجنيد القلم أو الظهور الإعلامي المبرمج، أو حتى القيام بأعمال عدائية إقتصادية.
إلا أن المرتزقة الأكثر شهرة هم حاملوا السلاح، ولقد عانت ليبيا على مر تاريخها الطويل من ويلات هذا الصنف من المرتزقة الذين وقفوا مع الأتراك في حربهم ضد الثورات الوطنية، والذين حاربوا مع الإيطاليين من الأحباش القادمين من أثيوبيا أو الليبيين المنخرطين مع الجيش الإيطالي.
ملف المرتزقة الأكثر سؤاً بداء مع ثورة 17 فبراير عندما هدد القذافي أوربا بإغراقها بالمهاجرين “وانه معه الملاييبن” ولقد أكدت تقارير خبراء الأمم المتحدة المعنيين بليبيا سنة 2012 م إستعانة القذافي بمرتزقة من النيجر وتشاد ومالي والسودان وشركات أمنية من جنوب أفريقيا، كما تم أسر عسكريين من صربيا وبلاروسيا وروسيا.
في صيف 2014 م أصبح سوق المرتزقة بليبيا رائجا، حيث أدخل المئات من الأجانب بأوراق رسمية كعمال نظافة إلى مدينة سرت ليكونوا نواة لسرايا داعش، ودفع إدريس دبي بمئات من قبائل الزغاوة إلى منطقة الكفرة لزعزعة الأمن، وإستقطب حفتر أنواعُ عدة من المرتزقة المصريين والتبو والفرنسيين ومن العدل والمساواة ومن التشاديين لخوض غمار الحرب في بنغازي، كما تبنى جيش القبائل مرتزقة من تشاد (إقليم بركو إينيدي) ومالي وفصيل مناوي للحرب في الغرب الليبي، ولقد وجدت جتثهم في شارع ولي العهد بطرابلس ثم لاحقا في ككلة.
كشف تقرير لجنة خبراء الأمم المتحدة الصادر في مارس 2016 م أن حفتر هدد قبائل الشرق الليبي بأنه سيستعيض عنهم بمقاتلين أفارقة “مرتزقة” إذا لم يمتثلوا لطلبه بتقديم المزيد من المقاتلين، كما أدلى كوبلر في لقاء له نشر على صحيفة دوديمانش الفرنسية أن قوات حفتر تضم مرتزقة من تشاد ومن السودان.
يقابل الإرتزاق التقليدي المسلح من أفراد فقراء وأنصاف متعلمين، إرتزاق آخر أكثر خطورة وهو الإرتزاق الإعلامي الذي تقوم به الطبقة المتعلمة من أجل الكسب السريع، هذه الطبقة جعلتها المبالغ المغرية ألعوبة في يد الإستخبارات الخارجية، وبسبب الأوضاع السيئة أصبح بعض الكُتاب والإعلاميين يعرضون بضاعتهم بأرخص الأثمان، بل أن هناك تسابق محموم على العمالة للدول العربية التي لها مصالح حيوية في ليبيا، مما إنعكس سلبا على الحياة السياسية والإجتماعية بسبب تعميق الخلاف وتأجيج الحروب بين أبناء الوطن الواحد، بل وتبرير التدمير والقتل والسحل بشعارات واهية مثل محاربة الإرهاب.
كشفت دراسة إعلامية في يناير من العام الماضي أجراها عدد من الإعلاميين الليبيين عن سيطرة أبوظبي على 7 وسائل إعلامية ليبية وعدد 4 صفحات في مواقع التواصل الاجتماعي، فيما أوضحت أنها أنفقت عليها نحو 74 مليون دولار، من هذه الوسائل الإعلامية؛ ببوابة الوسط، راديو الوسط fm، صحيفة ليبيا الحدث، بوابة أفريقيا الإخبارية، قناة 218، قناة ليبيا 24، و قناة ليبيا روحها الوطن، هذه الشبكة الإعلامية وضعت لتبرير إنقلاب عسكري فاشل قاده حفتر وفوضي سياسية عارمة خططت له الإمارات وتم تنفيذه بأيدي ليبية وبالتعاون مع برناردينو ليون (الموظف براتب 1000 جنيه إسترليني يوميا من الإمارات) من أجل تخريب الثورة الليبية، وبدعوي محاربة الإسلاميين، إلا أن هدفها الأكبر إشاعة الفرقة وتغذية النعرات الجهوية والقبلية وصناعة وكلاء لها، والتسويق لأفكار متخلفة، وذلك عن طريق تأييد أقلية من العسكر وكثلة السيادة الوطنية بالبرلمان مقابل الأكثرية الرافضة وهو الأسلوب المتبع لإشاعة الفوضي في العراق والبحرين وإيران والسودان، ويمكن الإطلاع على تفاصيل وسائل الإعلام الإماراتية الموجهة لليبيا في موقع شئون إماراتية على الرابط http://emiratiaffairs.com/news/view/727
لاشك أن قيام دولة حديثة في ليبيا بشواطئها الطويلة، ومناخها المعتدل، وموقعها الإستراتيجي الهام، ومواردها الزاخرة، وسهولة التعامل مع أهلها، سينهي طفرة حضارة الإسمنت الخليجية وسيجعل أبراج الإمارات مرتعا للحمام كما هي ديار صالح حاليا.
نعم إنهيار المؤسسات والحكومات الليبية المتعاقبة وتشتتها لم يساعد على إيجاد منابر إعلامية وطنية هادفة، وهو ما جعل البلاد تسقط ضمن مخططات عسكرية وإعلامية لدول أخرى، بل وحتى من الدول الأقل وزناً عند المجموعة الدولية، يقول إبن خفاجة في سقوط بلنسية سنة 488ه:
عَاثَتْ بِسَاحَتِكِ العِدَا يَا دَارُ وَمَحَا مَحَاسِنَك البِلَى وَالنَّـارُ
وَإذَا تَرَدَّدَ ِفي جَنَابِكَ نَاظِـرٌ طاَلَ اعْتِـبارٌ فِيكَ واسْتِـعْبَارُ
أَرْضٌ تَقَاذَفَتْ الخُطُوبُ بأَهْلِهَا وَتَمَخَّضَـتْ بخَرَابهَا الأَقْـدَارُ
بعد كل ذلك يتسأل المرء مالفرق بين مشعان الجبوري الذي فتح قناة الرأي بتمويل القذافي لتخريب الثورة بإحتضان وتأليب رجال النظام السابق، والقناة 24 أو ليبيا روحها الوطن (الإمارات) برموزها المأجورة في منهجها لإبقاء الفوضى العارمة، ولا يستبعد أن تكون أموال الدعم لتلك المؤسسات من ريع بيع المخدرات المهربة إلى المدن الليبية، وهو ما شاهدناه سابقا في الغرب الليبي وحاليا في شرقه، وبذلك يكون الهدم مضاعفا وبأيدى ليبية مارقة.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً