نجحت ثورة 17 فبراير في إسقاط نظام القذافي ولكنها فشلت في إقامة البديل. قد يقول قائل إنها أُفشِلت، وهذا صحيح، ولكن وقود إفشالها خرج من رحمها. هي من أنتجت المعارضة، وهي التي مدت المنقلبين عليها بالذخائر اللازمة لذلك. حالة التشنج ورفض الآخر، وعزله وإقصائه هي من صنعت المشهد الحالي.
القصة من البداية:
الحوار والحسم والوصاية والتقسيم كلها حلول. فلقد فشلت محاولات الحوار الوطني، لانعدام الثقة، ونجح الحسم العسكري جزئياً، لكنه زاد الوطن انشطاراً، وهيأ البلد للانقسام، فأصبح لدينا جسمان تشريعيان وحكومتان وجيشان. التقسيم، هو الآخر قد يصبح حلاً ولكنه أسوأ الحلول، وهو نقيض فكرة عاشت الأجيال عليها، وناضلت من أجلها، وقدم الشهداء أرواحهم، كيلا يقع.
والوصاية وباء سيذهب بما تبقى من سيادة وثروات، وكرامة الإنسان، ويهدر من التضحيات ما لا يقدر بأي ثمن. ومع كل هذا قد تصبح حلاً حين تسد كل الطرق غيرها.
حاول طارق متري من قبل وأفشل، من قبل تيار اعتقد بأنه على وشك الانقضاض على الطرف الآخر، انطلاقاً من غرفة عملياته بالخارج. أفرزت الانتخابات مجلساً للنواب، استعجل الأمر قبل أوانه، ولم يستلم السلطة بشكل صحيح، مما أربك المشهد، إلى أن قضت الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا بانعدامه وبطلان جلساته.
أعلن اللواء المتقاعد خليفة حفتر انقلابه، وكذا فعلت الكتائب المرابطة في العاصمة واستعرت الحرب ونزفت الدماء ودمرت المدن. جنح قادة بعض الثوار للسلم وسبقوا الساسة، بل فوجئ الساسة بالجنوح للسلم، فلاموا المقاتلين ورموهم بالخيانة.
خلف برناردينو ليون سلفه طارق متري. لم يجد ليون قادة سياسيين بارزين قادرين بوزنهم على التحكم في المشهد، فقرر المبعوث الأممي فتح مسارات عدة للحوار، ورغم ارتباك ليون في البداية، إلا أنه في نهاية المطاف نجح في حشد الدعم لمسارات الحوار التي أطلق.
فشل الحوار الليبي- الليبي:
انعدام الثقة وفشل الحوارات السابقة، بخرت أي أمل في التوصل إلى حل ليبي-ليبي. كما أن الحديث عن تدخل المجتمع الدولي في القضية الليبية يعد ترفاً بالنظر إلى أن الثورة، ما كان لها أن تنجح لولا أن سخر الله لها المجتمع الدولي، الذي ساهم في إسقاط النظام السابق، وهذه حقيقة، قد تكون مؤسفة، لكن لا مجال لنكرانها.
كما أن الحديث عن تغول بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، هكذا من دون التنبه إلى الأسباب الحقيقية لهذا “التغول” يحتاج إلى تعليق؛ فسبب اتساع دائرة تدخل وتأثير البعثة هو تعنت الليبيين وعدم قدرتهم على إدارة خلافهم، بل رفض مجرد الجلوس مع بعضهم البعض، كما حدث في بداية الحوار. حتى أن مجلس الفتوى والبحوث بدار الإفتاء ذكر أن ما يحصل في الصخيرات ليس “من الاحتكام إلى غير المسلم؛ بل هو من مساعدة غير المسلم للمسلمين في فض نزاعاتهم التي لم يستطيعوا -للأسف- حلها وحدهم”.
لا يختلف اثنان بأن النزاع يجب أن يرد إلى القضاء. لكن مشروع الاتفاق السياسي الليبي يرد أي نزاع في التطبيق والتفسير إلى لجنة يرأسها قاض من المحكمة العليا، ربما لتفادي طول الوقت والإجراءات المعقدة التي يستلزمها التقاضي. كان الأفضل ترك ما يخص التطبيق للقضاء، إلا أن القضاء سيحكم بعدم الاختصاص، في بعض القضايا التي ترفع أمامه، مما سيعطل اللجنة والحقوق. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن المسودة الأخيرة أبعدت عضوية بعثة الأمم المتحدة في اللجنة كمستشار، وفتحت المجال أمام اللجنة لطلب استشارة البعثة من الناحية الفنية إذا لزم الأمر.
استراتيجية ولي الأمر:
لا مجال لإنكار أن المؤتمر الوطني العام، لم يعتمد استراتيجية صحيحة لخوض الحوار. استعان بمستشارين ضعاف، غلب عليهم الجانب الفني، ولم يكونوا يملكون رؤية سياسية، ومن امتلك منهم شيئاً من الرؤية السياسية، لم يُعبأ برأيه.
الاستراتيجية الوحيدة التي نجح المؤتمر في تبنيها، وكانت نتائجها كارثية، هي استراتجية الغياب، مما حول الوسيط إلى مشروع عدو للرؤية التي يحملها المؤتمر ويمثلها، فحتى اللحظة الأخيرة ترك نصف فريقه في الصخيرات، واستدعى النصف الآخر إلى طرابلس للتشاور، ومع ذلك كان الحاضر الغائب. غاب في مراحل مهمة ابتداءً من مراحل صياغة المسودة، وانتهاءً بتسمية مجلس رئاسة الوزراء.
المؤتمر في حقيقة الأمر لم يعد ولياً للأمر، كما يحلو للبعض وصفه، لأن البلد أصبح في حال فتنة لا سلطان لأحد به، وحتى لو افترضنا جدلاً، أن للمؤتمر ولاية على من يرتضي ذلك، أو على كل الليبيين باعتباره سلطة منتخبة، فإن ولاية المؤتمر لا تنصرف إلى رئيسه ولكن هي حق لكل أعضائه المائتين.
الواقع للأسف أن رئيس المؤتمر يتحكم في القرار، ويُعْمِلُ جهده، في بعض الحالات، كي لا يتخذ المؤتمر قراراته وفق الأسس الشوروية، أو كي يتحقق له مقصده بتوجيه القرار كما يريد، ويصدر معلقاته كما يحلو له.
عندما قلت في تغريدة سابقة إن المؤتمر يتحكم فيه بعض المتشددين الرافضين للحوار في الأساس، ثار البعض ضدها، ثم تبين لهم لاحقا صحتها، بعد أن أثبتت الوقائع ذلك.
توضيحات:
ليس سراً، ولا اكتشافاً جديداً، أن المسودة ليست مثالية ولكن في الوقت ذاته لا يمكن لأزمة سياسية معقدة، مثل التي تمر بها ليبيا، أن يستمر الحوار بشأنها إلى ما لا نهاية، ولا أن تحل بتلبية شروط كل الأطراف، ولا يمكن تصور اتفاق يتحصل بموجبه كل طرف على كلما يريد.
كل الأسماء التي اقترحت لمجلس الرئاسة كانت مرشحة من قبل الأطراف المتحاورة لعضوية المجلس، وما اختلف في مقترح ليون هو صفاتها داخل مجلس رئاسة الوزراء.
أما بقية الأسماء التي استعرضها رئيس البعثة في المؤتمر الصحفي فقد صرح، وأكد في بيان لاحق، بأنها، أسماء مرشحين مقترحين، المرجعُ في قبولها ورفضها هو مجلس الرئاسة أو وفق نصوص الإتفاق.
ومع وجاهة الرفض المبدئي، بل وإدانة تصرف ليون باقتراح أسماء للحكومة، ومناصب سيادية لا يخوله الاتفاق السياسي الخوض فيها، فإن اعتبارها مبرراً لرفض مخرجات الحوار، تطرف سياسي في غير محله، إذا أخذنا في الاعتبار صفتها غير الإلزامية، وكون اقتراحها جزءا من سياق التحاور، والاتفاق.
وبالعودة إلى اختيار مجلس الرئاسة، فإن سبب اقتراحه من البعثة هو انعدام الثقة بين الليبيين، التي سبق وأفشلت كل محاولات الحوارات الليبية الليبية. حيث اجتمعت الأطراف المشاركة في حوار الصخيرات، باسثناء وفدي مجلس النواب والمؤتمر الوطني، وحاولت التوافق على آلية لاختيار مجلس الرئاسة، إلا أنها لم تتمكن من الاتفاق على آلية محددة، مما فتح المجال، في نهاية المطاف، إلى القبول بالآلية المقترحة من الأمم المتحدة، بالرغم من أنها تمنح البعثة الأممية مساحة أكبر للتأثير.
في المرحلة الأخيرة من الحوار؛ تحول المشاركون إلى وسطاء، للتوصل إلى حل توافقي، وكادوا أن ينجحوا بعد الموافقة المبدئية من بعض أعضاء وفد المؤتمر، ولكن محاولتهم باءت بالفشل.
نتيجة لذلك تمت إضافة نائب ثالث، بالتشاور مع الأطراف، لحل الإشكال الذي نتج عن رفض وفد المؤتمر لمقترح اللحظة الأخيرة. كما أن التصويت بالأغلبية قد تم التشاور بشأنه أيضاً، ولم يفاجأ به الأطراف كما يشاع.
هذا الاتفاق سيكون منشئاً للأجسام التي ستدير الدولة بنص المادة (12)، من ملحق الأحكام الإضافية، وعرفت الفترة الانتقالية في المادة الأولى من نفس الملحق بأنها: التالية لهذا الاتفاق. كما أن أي تعديل للإعلان الدستوري يستلزم توافق مجلس الدولة ومجلس النواب، ويصدره الأخير دون تعديل.
الاتفاق ينص، على أن مجلس الدولة شريك في التشريع، إلا أن من يصدر التشريعات هو مجلس النواب المقيد بنصوص الاتفاق التي تنص في بعض موادها بأن يصدرها كما هي، وكما تم التوافق عليها مع مجلس الدولة دون أي تغيير.
التوافق قُيّد في الاتفاق بموافقة أغلبية أعضاء مجلس الدولة الذي لم يعد جسماً استشارياً، وإن سمي كذلك.
الاتفاق ينص أيضاً على الالتزام بأن الشريعة الإسلامية هي مصدر كل تشريع وكل ما يخالفها يعد باطلاً، وهذا مكسب كبير، أصرت عليه دار الإفتاء، وعلينا أن نحتفي به ونحرسه.
قياس مع الفارق:
يصعب على الإنسان العادي ممن ليس من أهل النظر الفقهي، استساغة مقارنة اتفاق سياسي يُرجى منه أن يحقق مقاصد شرعية كبرى، مثل: حقن الدماء التي تنزف، وصون الأعراض التي تنتهك، وحياطة الأموال التي تنتهب، وتدارك بنية الدولة والمجتمع التي تدمر. من الصعب استساغة مقارنته بعقد بيع عادي بين شخصين يحتمل أن يتراضيا اليوم أو غداً، أو أن يسلك كل منهما سبيله، ويتمسك بالخيار.
إن حجم المفاسد المترتب على عدم التوافق ، وحجم المصالح الذي يرجى أن يترتب على الاتفاق تنفي أي إمكان للمقايسة؛ فهما من جنسين مختلفين؛ أحدهما يقوم على الاختيار، وتحقيق مصالح لفرد، أو لمجموعة، قائمين على مصالحهم بذواتهم، والثاني قائم على ضرورات دفع المفاسد، وجلب المصالح، لعموم من الناس، يستحيل أن يقوموا بهذه المصالح بأنفسهم، أو أن يدفعوا عن أنفسهم نفس الأضرار.
لا شك أن الشعب الليبي يريد أن يجعل هذه المرحلة، الصعبة من تاريخه، ورائه ظهرياً، ولا شك أن المجتمع الدولي سيسعى، حتى اللحظات الأخيرة وبشتى الطرق، لإلتحاق كل الأطراف، وعلى رأسها المؤتمر الوطني العام ومجلس النواب، بالاتفاق. لكن هذا الاتفاق في الغالب سيسير بهم أو بدونهم. وسيبقى، مهما قيل معه أو عليه، مجرد حل ممكن، لا شك أنه أفضل ما أمكن التوصل إليه الآن، وما يتصور الوصول إليه، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الظروف المحيطة، وواقع الأزمة الليبية، والمشهد الإقليمي والدولي.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً