مصر، ومن في حكمها من الدول، حسب هذا المنطق تعتبر مدانة لأنها تتجاوز المجلس الرئاسي في تعاملها مع الأجسام الليبية، وترى أن شرعية تدخلها كما ورد في خطاب رئيسها “باتت تتوفر له الشرعية الدولية سواء في إطار ميثاق الأمم المتحدة الخاص بحق الدفاع عن النفس أو بناء على السلطة الشرعية الوحيدة المنتخبة من الشعب الليبي أي مجلس النواب”.
التدخل المصري في ليبيا، حسب هذا الخطاب، يُخالف تماما الميثاق الأممي الصادر عن الأمم المتحدة في اجتماعها بمدينة سان فرانسيسكو في يوم 26 يونيه 1945، وتضمنت ديباجته تعبيرها عن الخوف من الحروب والنزعات المسلحة، حيث ورد في الفقرة الرابعة من المادة الثانية منه ما نصه: “يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة”.
والتدخل المصري المخالف للمواثيق الدولية ليس مقتصرا فقط على خطاب الرئيس المصري الأخير وإنما يسبقه قبل ذلك بكثير، فمواقفها تُخالف أيضا كل مواد الفقرة الثانية من المادة الأولى من الإعلان العالمي بعدم جواز التدخل في الشئون الداخلية للدول رقم 36/103 المؤرخ في 9 ديسمبر 1981، فقد جعلت مصر من أرضها منصة سياسية (وربما عسكرية) لأنصار النظام السابق، وهي تدرك دورهم في تقويض الدولة الليبية، وسعيهم لاستعادة النظام الجماهيري. أي أنها لم تلتزم بـالقاعدة الواردة في الفقرة (ب) من المادة الثانية من الإعلان، والتي تقول بـ”عدم استخدام الدولة لإقليمها على نحو فيه انتهاك لسيادة دولة أخرى”.
وبما أن مصر تعترف بالاتفاق السياسي وبالأجسام المنبثقة عنه، فإن دورها الطبيعي يجب أن يكون الوقوف مع الأجسام التي انبثقت عن هذا الاتفاق، وأن أي تحرك ضد الحكومة المنبثقة عنه يعتبر تحرك غير مشروع، وبالتالي فمساندة هذا التحرك هو انتهاك صريح لنص الإعلان الفقرة (و) من المادة الثانية التي نصها ” الامتناع عن القيام، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بتعزيز أو تشجيع أو دعم أنشطة التمرد أو الانفصال داخل دول أخرى، بأي حجة كانت”.. أي أن وقوفها إلى جانب حفتر، بحجة محاربة الإرهاب، هو اعتداء على الدولة الليبية التي تمثلها حكومة الوفاق.
وأيضا، عدم احترام لميثاق الجامعة العربية التي لا زالت تعترف، حتى آخر اجتماعاتها، بشرعية حكومة الوفاق وتعتبرها الواجهة السياسية لدولة ليبيا، فميثاق الجامعة “يجرم عدم احترام نظم الحكم في دول الجامعة”.
التحجج بشرعية التدخل بناء على دعوة البرلمان الليبي أيضا تحجج في غير محله، فالبرلمان الليبي المنتخب من قِبل الشعب الليبي هو فعلا جسم شرعي، لكن يسقط التحجج به لعدة أسباب.
أول هذه الأسباب وقد أشرت إليه، فالدول لا تتعامل فيما بينها رسميا عن طريق برلماناتها، وإنما عن طريق حكوماتها، الحكومة تمثل الدولة، البرلمان يمثل الشعب، وبالتالي التعامل مع البرلمان ينافي أبسط أبجديات الدبلوماسية الدولية، وقد رأينا في الأسابيع الماضية الضجة السياسية والإعلامية التي رافقت التنديد بلقاء السيد الغنوشي رئيس البرلمان التونسي مع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، والتي فجرت عاصفة في البرلمان التونسي طالبت بتنحيته من رئاسة البرلمان بسبب هذا اللقاء، باعتبار أن الغنوشي لا يملك منصب تنفيذي في دولة تونس.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يختصر البرلمان في شخص رئيسه، وإذا تحدثنا عن البرلمان الليبي فهو منقسم، الجزء الأكبر منه يجتمع دوريا في طرابلس وهو مناهض للحرب وخصم لحفتر، وبالتالي مستحيل أن يعمل على استدعاء مصر عسكريا، والكتلة البرلمانية التي تساند الحرب هي كتلة محدودة العدد يقودها رئيس البرلمان عقيلة صالح وينعدم وزنها ككتلة أن تكون ممثلة لإرادة الليبيين.
عقدة العرب عامة والمصريين خاصة من صفة “رئيس” تخلق إشكالية لها تبعاتها، إذ منح شخص ما هذه الصفة تكسبه هالة عند غيره، فليس لكل من يكتسب صفة “رئيس” يكتسب معها صلاحيات تنفيذية عليا كإعلان الحرب أو طلب العون الدولي.
الصلاحيات التنفيذية العليا تمنح فقط لرئيس الدولة أو رئيس وزرائها حسب النظام السياسي المتبع في تلك الدولة.
رئيس البرلمان هو مجرد مدير لجلسات البرلمان عند انعقاده ليس إلا، وصوته لا يختلف عن صوت أي من زملائه أعضاء البرلمان، وفي أفضل الأحوال ربما يميل القرار لصالح الكتلة التي يصوت لصالحها عند تعادل الأصوات.
لذلك فالاتفاقيات الدولية وطلب الدعم الخارجي هو من صميم اختصاص الحكومات وليس البرلمان، وقد يعترض البرلمان على بعض الاتفاقيات التي تقوم بها الحكومة، لكن تمرير الاعتراض لا يأتي من رئيس البرلمان أو من كتلة برلمانية، وإنما من التصويت على الأمر وتمريره أو حجبه من قِبل الأغلبية حسب اللوائح التي يقرها البرلمان لجلساته.
لذلك فالقول إن للتدخل شرعية اكتسبها من دعوة البرلمان له هي ادعاء باطل، وحتى أن وافقنا جدلا أن البرلمان قادر على منح الشرعية لدولة أجنبية بالتدخل، فهذا يتطلب اجتماع البرلمان بكامل أعضائه وطرح موضوع التدخل والتصويت عليه، لكن أن يختزل برلمان دولة ما في رئيسها أو في كتلة برلمانية فيه فهذا يُجافي الحق تماما.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً