بلا شك أن أي حوار أو تقارب في وجهات النظر بين الليبيين يعتبر خطوة نحو الحل الدائم للمشكلة الليبية التي طالت مداها، فإجتماع رئيس مجلس النواب مع رئيس المجلس الأعلى، والذي أعقبه لقاء حفتر والسراج في الإمارات، لقاءات لها أهميتها (نظريا) لنزع فتيل الحرب القائمة أو التخفيف من أضرارها. إلا أن التسويق الإعلامي لهذه اللقاءات أكبر من حجمها، فالتعويل على أن لقاء بين شخصين (أي كانوا) يحل مشكل الليبيين بجرة قلم لا يعبر إلا عن تفائل يقترب من السذاجة، وذلك لآسباب كثيرة قد يضيق المقام عن سردها جميعاً.
قراءة الإتفاق في وعائه الزمني والجيوسياسي، لا يزيد عن محاولة معالجة نقطتين أساسيتين تهم الخارج ولا علاقة لها بالداخل وهُما رضوخ الدول (الشقيقة) للضغوط الدولية نحو تقليل الدعم المعلن لطرف دون آخر مع محاولة إيجاد مخرج سياسي لمساعدة حفتر والمحافظة على مكاسب الدولتين في ليبيا، والنقطة الأخرى إستباق إجتماع وزراء الدفاع للدول الأوروبية في 10 يونيو القادم بعد ظهور تقارير أمريكية (منها شهادة ديبورا جونز) بأن حفتر ورئيس البرلمان هم المعطلون للإتفاق، مع تسجيل تقارير هيومن رايت ووتش، بوجود إنتهاكات لحقوق الإنسان في بنغازي يتحمل مسؤوليتها المجموعة التابعة لحفتر. ولا شك أن الإتفاق في أبوظبي يشكل تعويض معنوي لخيبة أمل الدبلوماسية المصرية لجمع الفرقاء سابقا في القاهرة، وبالمقابل محاولة لإفشال مساعي الجزائر نحو لعب أي دور في القضية الليبية، وهو ما نراه من زيارة الهرولة لرئيس البرلمان للمغرب بلا سابق ترتيب لها.
من النواحي الفنية جميع اللقاءات السابقة تعتبر خارج النطاق القانوني للدولة الليبية، وبفوضي لم يشهد لها التاريخ مثيل؛ فالمجلس الرئاسي والبرلمان والمجلس الأعلى لم يٌضمن أي منهم في الإعلان الدستوري، اي أن لا شرعية لهم وبالتأكيد حفتر المعين من البرلمان. وتستند الإجتماعات السابقة إلى إتفاق الصخيرات المدعوم دوليا، والذي سحب الجسمين المتصارعين؛ البرلمان والمؤتمر نوابهما ولم يعترفا بالإتفاق رغم الدعم الدولي الكبير للرئاسي وحكومته التوافقية.
ليست هذه المشكلة فالليبيون ذاقوا ذرعا من التشظئ (والغريق يتعلق بقشة) ولكن المشكلة في بواعث الخلاف وأليات تنفيذ التقارب بين النقيضين. أول هذه المشاكل العودة لتضمين الإتفاق في الدستور من برلمان لا وجود ولا صلاح له عدا في عقلية عقيلة صالح، ولا تستطيع أغلبية نوابه العودة إلى مقر البرلمان بسبب التهديد والوعيد لهم، ولا يستطيع البرلمان الإجتماع في غيرها من المدن بسبب ضغط قوى الفيدرالية والتهديد بالتقسيم المزعوم.
المشاكل الأخرى أن حفتر كوزير دفاع لحكومة لم تشكل بعد وبدعم من رجالات العهد السابق أنه هو الطرف الأساسي في الإتفاق والذي سيتم تصميم كل البنود العالقة لتنفيذ رغباته، منها تصفية خصومه ممن لا يوافق على الإنضمام إليه، بدعوى محاربة الإرهاب، ولا يستبعد الإبقاء على برنامج الحاكم العسكري (الذي صممه الأشقاء) من أجل إيجاد صيغة مختلفة لحكم المنطقة الشرقية عن المناطق الليبية الأخرى، مما يعمق الخلاف والتهديد بالإنفصال، أو تعميم عسكرة الدولة والإنتقال إلى النظام العسكري من جديد، خاصة وأن المنظومة في المنطقة الشرقية جاهزة لهذا النهج.
ما لا يساعد هذا الإتفاق أنه بني على تفسير خاطئ للصراع الليبي؛ بأنه صراع على الموارد والمناصب، وهو جزء من الحقيقة وليس كلها، فبعد تأكد الجميع أن الصراع الأيديولوجي (إسلاميين ضد العلمانيين) كان وهماً ولا وجود له في الواقع الليبي بعد هزيمة داعش على يد البنيان المرصوص، وتعمد عدم الظهور للكثير من قيادات المؤتمر وأعضاء المجلس الأعلى ومعظم ذوي التوجه الإسلامي أو الوطني على وسائل الإعلام، إنتقلت الألة الإعلامية الموالية لحفتر إلى تسويق مفهوم الصراع السياسي على السلطة ولم يسعفهم الحظ في ذلك.
ما لا يحتاج إلى برهان بعد ستة سنوات من الثورة أن الصراع لا يزال بين رجالات العهد السابق مدعومين بقواعد إدارية ومؤسسات في الحكومة العميقة للدولة الليبية التي تعيش على الفساد وتقتات منه لأربعة عقود ولا تستطيع التنازل عن مكتسباتها مهما طال الزمن، وقد إستطاع حفتر ورئيس البرلمان التأليف بين قلوبهم، يقارع ذلك القلة من الشباب المؤمن بالتغيير نحو الأفضل والتي حزمت أمرها على اللاعودة إلى النظام السابق رغم تكالب بعض الدول (الشقيقة) من أجل خلق الفوضي وتغذية أتون الحرب والدمار وتعميق الأزمة الإقتصادية المخطط لها مسبقا.
هذه النخبة المتواجدة في الكثير من مدن الغرب والشرق والجنوب الليبي لن يكون هذا الإتفاق ذو معنى لهم، أولها فقدان الدول الراعية للمصداقية، وأنه إتفاق من طرف واحد، إذا علمنا أن السراج محايد بل متماهي إلى حد كبير، وقطعا لا يمثل إرادة التغيير في الإتفاق، وهو ما شجع بعض أعضاء المؤتمر للذهاب إلى غنيا من أجل إشراك الإتحاد الإفريقي في الأمر ( وهو نوع من العبث المكرر)، ولا يختلف عن إجتماع مالطا وعمان وروما، والهدف من هذا العبث إطالة مدى الفوضي من أجل الكسب الشخصي اكثر من غيره.
الحلول الجاهزة من الدول الشقيقة لمن يدور في فلكها من الليبيين، يذكرنا بقصة الإعرابي الذي أهدى ناقة للرسول من أجل الحصول على مكاسب أكبر، يقول الحديث عن أبي هريرة أن أعرابيا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بكرة (ناقة صغيرة السن) فعوضه منها ست بكرات فتسخطها (أي لم يكن راضيا على التعويض)، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن فلانا أهدى إلي ناقة فعوضته منها ست بكرات فظل ساخطا لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي. يقول بعض المفسرين أن النبي خص تلك القبائل لقبول الهدية لأنها أكثر تمدنا وأبعد عن البداوة، فمن أوغل في القتل وحبك الدسائس لا تنتظر منه الكثير.
وستبين السنين أن طبع أوراق النقذ في روسيا مع عدم تضمينها في حسابات المركزي وسحب العملة الصعبة بعملة لا رصيد لها لتمويل إلة الحرب المدمرة، وبذخ البرلمان، الأمر الذي هوى بالعملة المحلية إلى الحضيض لم تكن إلا بتدبير المنتفعين من الأشقاء.
عوداً على بدء يكون حل الأزمة الليبية بالتوجه إلى صناديق الإقتراع مرة أخرى لإنتخاب رئيس للدولة ومجلس نواب جديد (وهو صوت الكثير من الوطنيين)، هذا الحدث سينهي أحلام العسكر في إغتصاب السلطة، وينهي تدخل الدول المجاورة، ويتوقف مسلسل المتشبثين بالمزايا والمهايا بلا عمل يذكر، ويفتح المجال لأفق جديد يختار الشعب ممثليه على أسس جديدة بعد أن ذاق الويل من نواب النوائب (كما وصفهم الأستاذ عبد الرحمان شلقم).
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً