الأزمة الإقتصادية الحالية التي تعاني منها العديد من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كانت متوقعة من العديد من الهيئات الإقتصادية الدولية وعلى رأسها البنك الدولي، ففي 15 أبريل 2015 نشرت جريدة واشنطون بوست تقريرا عن البنك الدولي مفاده أن معدل النمؤ في هذه الدول سوف لن يتجاوز 3.3%، وبسبب هبوط سعر النفط تتجاوز خسائر دول الخليج 215 مليار دولار أي ما يقابل 14% من مجموع ميزانياتها. إضافة إلى إنخفاض سعر النفط ودخول الكثير من دول هذه المنطقة في إضطرابات مسلحة تحد من برامج الإستثمار وتزيد من معدلات البطالة، مع التوسع في حجم الإنفاق العام، وهو واضح وجلي في كل الدول ولكن بدرجات متفاوتة.
المشكلة الأساسية في معظم هذه الدول أنها تعتمد كليا على ريع النفط أو المعونات الخارجية وليس لها إنتاج معتبر يمكن أن تقوم ميزانية الدولة عليه، أو حتى إكتفاء ذاتي للسلع الأساسية، وبالتأكيد ليس مؤهلا لتوفير بنية أساسية جيدة، بإختصار شديد يقول تقرير البنك الدولي أن العقد الإجتماعي السابق بين الدولة والشعب والذي يتلخص في أن “الدولة توفر مرتبات أساسية وسلع تموينية وإمدادات الطاقة المدعمة يجب أن ينتهي، فهذا النظام لم يستطيع حل مشكلة البطالة، ولم يوفر منظومة تعليمية ولا صحية جيدة، كما أنه يحد من نشاط القطاع الخاص الذي له الدور الأساسي في نهوض الأمم. ويستطرد التقرير أن برامج التعليم والخدمات الصحية الجيدة تحتاج إلى إستثمارات من الدولة وهو ما لا تستطيع القيام به، وأن القطاع الخاص يحتاج إلى أسواق مفتوحة للمنافسة وليس إلى مجموعة تجار مدعومين من الدولة يقومون بإحتكار السوق. ويهدف البرنامج إلى إنهاء منظومة توزيع الفقر بعدالة (أي الشعب كله لا يشتغل ويتقاضى رواتب من الدولة)، أو أن مؤسسات الدولة جميعها قد تحولت إلى منظومة ضمان إجتماعي كبير، وبالمقابل ينتهي تفويض الشعب للساسة بالحكم مدى الحياة لهم ولأبنائهم.
مالم يتطرق إليه صندوق النقد الدولي هو حجم الفساد في هذه الدول سوى كانت الفقيرة منها أو الغنية، والذي ينخر في عظام الأمة، فالدولة الليبية مثلا (حازت) على الترتيب 166، 172 و 175 في سلم الشفافية خلال السنوات الثلاث الماضية وهي أرقام مشابهة لثلاثة عقود سابقة، إلا أن النظام السابق لم يألوا جهدا لطمس هذه الحقائق وتفنيدها بأنها دعايات إمبريالية مغرضة. يتضح الفساد من تقارير ديوان المحاسبة التي تسجل القليل من المخالفات المالية مثل الحاويات الفارغة، والغش في كمية الواردات، إضافة إلى تهريب الوقود إلى دول الجوار، والتلاعب بتصريف العملة في المصارف، والبيع بأسعار السوق الموازي لبضائع لها إعتمادات مصرفية.
لقد إستبشر الليبيون خيرا عند طرح قانون تعويض الدعم نقذا، من أجل رفع سعر البضائع إلى مستوى ينتفي معه التهريب إلى دول الجوار مثل الوقود، ويكون حافزا للإنتاج المحلي مثل المحاصيل الزراعية، ولكن عاد الأمر إلى فتح الإعتمادات للمواد المدعومة بسعر بخس نتج عنه تزوير الكميات الموردة بما يقارب 70% رغم الإجراءات التي قام بها المصرف المركزي وديوان المحاسبة، وأدى إلى كشف وإيقاف 13 شركة عن العمل وتجميد أرصدتها، وقبل ذلك شركات أخرى، وهكذا يستمر نزيف التهريب والفاقة حتى بعد تفعيل صندوق موازنة الأسعار.
رغم ذلك لم نرى شركة تم ترجيع إعتماداتها المالية إلى الدولة وأودع صاحبها السجن، ولا مدير إدارة مصرف أقيل من منصبه وجرجر للمحاكم، ولا مهرب للوقود حكم عليه بقانون الجرائم الإقتصادية، وهنا يجب أن نقارن بين الدول العربية بعدوها اللدود إسرائيل التي تتمتع بإقتصاد جيد فنري، أن في سجون إسرائيل اليوم يوجد رئيس وزراء سابق، لتورطه في قضية فساد مالي، ورئيس جمهورية سابق مورّط في قضية تحرّش جنسي، أي أن إسرائيل ليست متفوقة على المسلمين عسكريا فقط بل وأخلاقيا في دولة يسودها العدل والمساواه (للمواطنين اليهود).
أصدرت مؤسسة الإحصاء الأمريكية بيان حول اغنياء العالم المستجدين (New world wealth)، حيث تقول أن تونس تتصدر المرتبة الأولى في شمال أفريقيا من حيث عدد الأثريا ب 6500 مليونيراً، ثم ليبيا 6400، ثم المغرب 4100 ، كما يوجد أكثر من 70 ملياردير في ليبيا. وبذلك يكون عدد الأثريا الجدد في ليبيا هو الأعلى بالنسبة لعدد السكان في دول شمال أفريقيا، والكثير من دول العالم، ولا شك أن جزء كبير من هؤلاء الأثرياء هم حصيلة الفساد السابق، والمفارقة أن عدد الأثريا في ليبيا وتونس متقارب رغم إختلاف عدد السكان، وأنهم شركاء في 500 مليون لتر من الوقود المهرب، مما يضع أسئلة أخري هل الأموال الليبية المنهوبة تصنع أثريا بالداخل وبدول الجوار؟
السؤال الجدير بالطرح؛ هل لهؤلاء الأثريا الجدد دوراً في التنمية كما كان للأثريا المخضرمين في نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، مثل بن ساسى وإبراهيم حافظ وقدح، الذين كان لهم دور أساسيا في تنفيذ الكثير من المشاريع التنموية؟ الإجابة على ذلك ينبي بأن هناك إختلاف جوهري في مصدر المال ويتبع ذلك إختلاف في المآل، فالذين إختلسوا الأموال في نهاية حكم القذافي والذين إستولوا على حسابات الكتائب الأمنية لم يعد لهم وجود في ليبيا، وبالمثل هؤلاء الأثرياء الجدد إمتعضوا كثيرا من إجراءات المصرف المركزي فأمسكوا عن الإيداع والتداول المصرفي لمدخراتهم فكانت أزمة السيولة، وتهافتوا عن الإعتمادات الرسمية والتحويل إلى العملة الصعبة، فزاد سعراها خمسة أضعاف. إن الأموال المنهوبة لا تبني إقتصاداٌ ولا تصنع رجال أعمال، بل تضيع جل هذه المبالغ في مضاربات خارجية ومغامرات خاسرة أوعقارات غير ذات أهمية في تونس ومصر والبرتغال، على منوال عنوان الفيلم السينمائي الشهير (Easy come easy go) ما جاء سهلا ضاع سهلا.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً