تأسست أحزابٌ سياسيةٌ في ليبيا في سنوات ما قبل الاستقلال عام 1951، وكذلك في العشرية الأولى من فترة الحكم الملكي للبلاد. وقد كان تأسيسها متأثراً إلى حدٍ بعيدٍ بالظروف والتيارات السياسية والأيدولوجية آنذاك، كما أنها تأثرت – تنظيمياً – بالبيئة الجهوية والقبلية السائدة في الأقاليم الثلاث، وبانعدام وسائل التواصل والتأثير، في ضوء اتساع جغرافيا الدولة، وتبعثر التجمعات السكانية.
وهذا يجعلنا نعتبر تلك الأحزاب أحزاباً محليةً، تفتقر إلى التنظيم، كما أن التمويل الذاتي من منتسبيها كان شبه معدومٍ، لأن تلك الفترة هي مرحلة نهاية الاستعمار المباشر، وقد سادها الفقر والعوز، مما أضعف دعم الأحزاب من تبرعات منتسبيها أو من الحكومات الموجودة حينذاك.
وفي فترة الحكم الملكي، لم تنل الأحزابُ دعماً حقيقياً، وشكّل تأثرُ عددٍ منها بالمد الأيديولوجي – خاصة المد القومي اليساري والشيوعي الاشتراكي – أمراً مزعجاً لنظام الحكم الذي كان يكافح انقساماً جهوياً بين الولايات الثلاثة، كما أن ازدياد حدة الاستقطاب الفكري بين الأحزاب قد دفعه إلى إعتبار بقاء النشاط الحزبي حينها أمراً يهدد وحدة البلاد، خاصةً عندما بدأ الاصطافُ واضحاً ومتواصلاً بين التيار السياسي الإسلامي، والتيار السياسي المدني الليبرالي، مما أدى إلى تصنيف الأحزاب دينياً وقومياً وإقليمياً.
وبحكم صبغة الحكم الشمولي التي سادت في تلك الفترة، فقد ظهرت أنظمة حكم الحزب الواحد، ونشأت أساليب قمع الأحزاب المنافسة والتنكيل بقادتها، وتجريم أفكارها ومشاريعها، باستخدام عصا الدولة، التي يسيطر عليها الحزب الحالكم الوحيد.
وفي هذا التلاطم، قام النظام الملكي بتجميد العمل الحزبي في عام 1963، عندما ألغى الفيدرالية بين الأقاليم الثلاث.
وعندما جاء النظام الجماهيري الاشتراكي الجديد، رأي في فكره السياسي – الذي أطلق عليه اسم “النظرية العالمية الثالثة” أن العمل العمل الحزبي – حتى ولو كان اشتراكياً خالصاً – هو خيانة عظمى، وتصدى له بأشد الأساليب والأحكام القضائية.
وقد نجح في ترسيب هذه الفكرة المنفّرة عن الأحزاب، من خلال التعبئة العقائدية، وساعده في ذلك الكثير من الممارسات المنحرفة لأحزابٍ خارج ليبيا، جعل منها حجةً على ما يقول.
وبعد حوالي نصف قرنٍ من تغييب وتخوين العمل الحزبي، جاء الإعلانُ الدستوريُّ المؤقتُ لثورة فبراير، ليُعيد إطلاق العمل الحزبي، بشكل حماسيٍّ غيرِ منظم، واستعاد المناخُ السياسيُّ حالة الاصطفاف بين الأحزاب الإسلامية والأحزاب المدنية الليبرالية، بشكلٍ أكثر حدةٍ، لأن إطلاق العمل الحزبي تزامن فوراً مع انتخابات 2012، التي أطلقت الأطماع في السلطة وعززت الاصطفاف السياسي بين الأحزاب.
وقد رأى المواطن الصراع بين الأحزاب، الذي وصل إلى مرحلة الاقتتال، فاستعاد رواسب تخوين العمل الحزبي، وقد ساعدته الأحزابُ على ذلك بممارساتها المنحرفة وأطماعها التي جعلتها تمارس الاقتتال واستخدام السلاح والاحتراب والمغالبة في العمل الحزبي لأول مرة في ليبيا.
ثم جاء القانون رقم (29) لسنة 2012، بشأن تنظيم الأحزاب السياسية، ليعطي المجال لكل من يرغب، ليؤسس حزباً سياسياً، دون ضوابط تنظيمية منطقية، يأتي في مقدمتها قدرة الحزب المزمع تأسيسه على امتلاك أسس فكرية وتنظيمية وهيكلية وتمويلية مستقلة، حتى وصل عدد الأحزاب المرخصة على الورق إلى أكثر من (100) حزب.
ونتيجة لذلك، فقد تبعثرت الكفاءات السياسية والقيادية بشكل أفقي واسع بين الأحزاب، مما يجعل ائتلافها لخدمة مشروع بناء الدولة أمراً صعباً، كما ساهم ذلك في بعثرة الامكانيات المادية والطاقات الشبابية، وأكثر من المبادرات والجهود المتشابهة والساعية لنفس الهدف الوطني. كما ظهرت علينا مجموعة صغيرة من الأحزاب تمارس الزبائنية السياسية، مما يسئ لأغلبية الأحزاب الأخرى، ويُعطي الحجة لترويج فكرة تخوين العمل الحزبي.
علينا ـ لنكون في وضوح مع الجميع ـ أن نعمل معاً على إصلاح العمل السياسي الحزبي، وأن نضع القواعد البنيوية لأحزابنا، وفي مقدمتها نشر الثقافة الديمقراطية، بما تشمله من حرية الرأي وحق المواطنة والتعايش والسلم الأهلي وتداول السلطة واحترام الدستور والقوانين، وحق المعارضة الأمينة، وتدريب كوادر شباب الأحزاب، واحترام قواعد العمل السياسي المنظم.
كما أن ائتلاف أو اندماج الأحزاب ذوات النهج المتقارب، هو سلوكٌ سياسيٌّ تمارس أعرق الديمقراطيات في العالم، لغرض الاقتراب من تحقيق الهدف وجمع الجهود وازدهار الساحة السياسية، لتستقبل عمليةً سياسيةً صحيحة. وسوف يساهم ذلك في تغيير الصورة النمطية المترسبة لدى المواطن حول الأحزاب في ليبيا.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً