في المحك تختبر الشعوب، وتشكل النوائب منعطفات تاريخية كثيرا ما تغير من أنماطها التقليدية السائدة، وبالتأكيد سيكون لها انعكاسات كبيرة قد لا نشهد خواتمها بسبب محدودية العمر للأفراد. عهد الانتفاضات الجماهيرية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا ينبئ بنهاية عهد الأمراء والسلاطين المُلاك، والرؤساء المستبدين، نهاية التوريث ونهاية حكم الأسرة، ولا شك أنه نهاية الأنماط المتخلفة مثل حكم الطائفة والقبيلة. لكل شعب منعطفاته التاريخية، فمثلا للمسلمين سقوط الخلافة في 3 مارس 1924م، ولليهود والفلسطينيين تاريخ إنشاء الدولة الإسرائيلية/ وقوع النكبة في 15 مايو 1948م، وللعرب هزيمة 5 يونيو 1967م، وللدول الشرقية سقوط جدار برلين في 9 نوفمبر 1989. خلخلة النظم العربية كان يمكن أن يكون متزامنا مع سقوط جدار برلين، ولكن سطوة وقمع الحكومات العربية حالت دون ذلك.
هذا التفاؤل المدعوم من حركة التاريخ (لا عودة لحكم الفرد المستبد ولا للتوريث ولا لحكم الطائفة أو القبيلة) يصطدم بحقائق واقعية بالغة التعقيد، وفوضي عارمة جلها خارجي المنشأ وله أدرع داخلية لا تتوانى عن التخريب، وشعب يعاني بصمت ينتظر مصيره ولم يصل بعد إلى مرحلة المشاركة في التغيير إلى الأفضل، ومنهم من انتكس على عقبيه ووضع اللوم على الجموع المناصرة لانتفاضات 2011م، وارتضي لنفسه العيش تحت نعال العسكر على دنك العيش من التدهور الأمني وصعوبة توفير الحاجات الضرورية.
إذا أردنا تقييم الحقب السابقة بطريقة دفع عقارب الساعة إلى الوراء، يتحتم علينا تبني ما توصلت إليه الإنسانية من خبرات في أصول الحكم الرشيد والتي تتمثل في العدل والمساواة بين المواطنين، وترتيب جيد في سلم الحريات العامة، مع خدمات تعليمية وصحية للجميع بمستوى مقبول، وبنية تحتية متطورة ونسبة نمو اقتصادي مناسب يضمن مستوى منخفض لمعدلات الفقر والبطالة، وبهذه المعايير يتم تقييم الدول إن كانت متخلفة أو نامية أو متطورة، ومن الواضح أن التقييم لا يهتم بنوعية الحكم ملكي أو جمهوري ولا عن تبعية الحكم للداخل أو للخارج، ولا بالخبرات المستعملة محلية أم وافدة، ولكن جل التركيز على النتائج دون غيرها من الشعارات البراقة التي أشبعنا من ترديدها دون طائل.
عودة إلى تقييم الحقب السابقة، لا يخفى على أحد أن العهد العثماني لا يخرج عن أن يكون زمن القلاقل والفتن، زمن القرصنة وتصفية الأمراء لبعضهم البعض، مع فقر مدقع لشعب أرهق بالأخماس والعشور، تلا ذلك دخول الاستعمار الإيطالي إلى ليبيا ومقاومته لعقد من الزمان في بلد مترامي الأطراف، إلا أن نشوب الحرب الأهلية بين الليبيين بدعم إيطالي انتهت المقاومة سنة 1922م في الغرب الليبي وانتهت في شرقه بإعدام المجاهد عمر المختار، وتحولت إيطاليا إلى البناء.
بعيداً عن الشعارات الرنانة وبتطبيق مؤشرات نجاح بناء الدولة السابقة تكون الحقبة الإيطالية من سنة 1922 إلى 1944م هي الأكبر أثراً على بناء الدولة الليبية حيث بنيت مقار الحكومة والعمارات السكنية والمدارس التي تخرج منها ألاف المدرسين بل كان هناك بعثات كثيرة للخارج، وكذلك بناء المستشفيات والاسواق العامة ومحطات توليد الكهرباء والفنادق وتوصيل المياه للمنازل بل والغاز المنزلي في طرابلس ولا ننسي سكك الحديد من الخمس إلى الزاوية الذي لم يعد له درب إلا في كتب التاريخ، مع استصلاح ألاف الهكتارات من الأراضي وزراعة ما يقارب من مليوني شجرة زيتون، وهذه المنجزات ليست في طرابلس وبنغازي فقط بل في الكثير من مدن الدواخل، هذه الإنجازات قامت بإدارة إيطالية فاعلة وبسواعد ليبية ماهرة، وبلا موارد نفطية ولا مساعدات دولية، ومن الواضح كذلك أن إيطاليا أنجزت ذلك لاعتقادها باستحالة الخروج من ليبيا لاحقا.
في عهد الدولة الوطنية الملكي والجمهوري/الجماهيري، دأب الغرب على اختيار من يحكمنا، وتحديد طبيعة حكمه، كان الخيار بين الرضاء بالدكتاتورية الوطنية المتسلطة أو الارتماء في أحضان الغرب وجشعه، والذي نعيش حلقاته التعيسة إلى الآن، فلا حرية ولا ديموقراطية إلا للعيون الزرقاء، كان دخل النفط بالمليارات، وكان برنامج تبديده في شراء السلاح ودعم كل الخارجين عن القانون في بلدانهم، كانت الحروب العبثية واستغلال الغرب لذلك للترويج لتهمة الإرهاب، كان الحصار الخانق وكان الفساد المستشري، كل ذلك عمل على تهالك البنية التحتية وانهيار التعليم والصحة وتوقف عجلة الإنتاج، وأصبحت ميزانية الدولة ليس لها سوى تسديد المرتبات التعيسة ودعم المحروقات والمواد الغذائية، أي تُختصر مهام جميع الأمانات/الوزارات في تمثيل دور صندوق الضمان الاجتماعي (مرتبات بلا إنتاج). بعد 17 فبراير تضاعفت المرتبات والفساد حتى أصبحنا نتحدث عن الإظلام الكامل وانقطاع الماء بأريحية، ومنا من يدافع عن شراء الاسلحة الروسية والفرنسية، والمدرعات الإماراتية، فهل هناك فشل للدولة الوطنية أبلغ من هذا الفشل، وهل هناك تواطؤ للمثقف بمثل هذا التواطؤ.
نعم ليس هناك لوم على الإيطاليين ولا على دول الغرب، فهم لهم استراتيجياتهم، ولكن مفهوم التحرر والدولة الوطنية كما ناضل من أجلها الآباء المؤسسون يحتاج إلى وقفة متأملة، لم يعد الغرب يتدخل عسكريا بعد اختراع القوى الناعمة، ولكن المحسوبون على الوطن هم الذين يتقاطرون على الشرق والغرب لعرض خدماتهم، وهؤلاء االدٌمى لا يراعون للوطن إلا ولا ذمة، فضلا عن أن يعملوا من أجل حياة كريمة لكل الليبيين، ففشل الطاقات المحلية من سياسيين ومؤسسات تابعة للدولة لتوفير سبل العيش الكريم بائنة وواضحة، ودروب حل هذه المعضلة لن تتأتى بالتغاضي عنها أو الانتظار إلى مالا نهاية، بل بإتباع عمليات جراحية ناجحة قد تكون أولا وأخيراُ بتغيير المؤسسات التشريعية والتنفيذية، والبناء من جديد على اسس جديدة يتعلم فيها المواطن كم هو مهم صوته في الانتخابات، وكم هو سهل إسقاط الوزراء والنواب الخارجين عن اختيارات الأمة.
وقد تكون بحلول أكثر شططا مثل إحالة مؤسسات الدولة الليبية كعقود للشركات العملاقة الكورية لإدارتها بنسبة أرباح قد لا تتجاوز 10% مما يوفر مرتبات للموظفين الليبيين وهم في بيوتهم، ويكون هناك فائض يزيد عن 30 مليار دينار لخطط التنمية وهو ما لم يحدث من قبل، مع بقاء الفاعلين ومن هم دون ذلك خارج اللعبة، وقد نتعظ بتاريخنا ونرفض أن نحكم بأيدي ليبية تحركها أدرع ومصالح خارجية ونقول للدول الغربية “استعمرونا من فضلكم” فالمواطن المستعمر كما في أستراليا وهونج كونج وجبل طارق له حقوق في القوانين والأعراف الدولية لا يتحصل عليها جل مواطنو الدول العربية تحت حكم الدولة الوطنية.
عنوان المقال اقتباس من عنوان الكتاب “استعمرونا من فضلكم! “للكاتب التونسي الأستاذ محمد الصالح التومي المعروفي
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً