الملف الليبي بما فيه من تعقيدات أصبح ملفاً مستباحاً لكل من هب ودب .. يفتحه .. فيطلع على محتوياته المشوشة والمتعارضة والمعقدة، فيزيدها ورقة من بنات أفكاره ليتضخم الملف ويزداد غموضاً.
في الأيام الماضية حدثت ضجة كبيرة حول تصريحات سفير الجمهورية الايطالية لقناة ليبيا الفضائية .. فيما يتعلق برأيه في موضوع استحقاق الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة اجابة على ما طرح عليه من اسئلة!!
الجدل انحصر في رفض الرأي الذي أدلى به وتطور الى استدعاء ذاكرة التاريخ وفترة الاستعمارالايطالي البغيض وفي خضم هذا التوظيف تاه موضوع الاستحقاق الانتخابي ولم تناقش أو تدحض الآراء المطروحة بموضوعية. وانما دعوات متشنجة من هنا وهناك لا يحكمها العقل أو المنطق أو الموضوعية. ذكرتني بخطاب الستينات ( خللي السيف يشن يرن)!!
الاستحقاق الانتخابي يهم جميع الليبيين باعتباره العربة التي سيعبرون بها الى مرحلة الاستقرار وتأسيس الدولة. انهم ينتظرونها بفارغى الصبر لانهاء هذه الفوضى العبثية.
الشعب الليبي تطلع للتغيير في 17 فبراير 2011 ليلحق بركب العالم المتقدم .. ولذلك فقد استعان بالمجتمع الدولي ليمكنه من انهاء عهد شمولي مرفوض من الجميع حتى من أبرز الشخصيات التي كانت تمثله من سفراء ووزراء وضباط جيش وشرطة وحتى من اللجان الثورية الذين انشقوا عن النظام السابق تأييدا لروح التغيير المنشود.
تلك كانت مؤشرات ايجابية لم نحسن الاستفادة منها .. فما أن انتصرت الثورة حتى بدأت تأكل أبناءها الذين انتصروا لها وانتصرت بهم.
جاء قانون العزل السياسي فخلق الفتنة بين الليبيين ومزق صفوفهم. و الذين عارضوا هذا القانون تعرضوا للأذى بالاقصاء والتهميش وكنت ضمن الذين تأدوا من ذلك وأنصفني القضاء الليبي العادل.
تداخلت الأمور واختلطت .. التيارات السياسية اختلفت فيما بينها.. امتزجت السياسة بالدين والدين بالسياسة .. وبدأت الأيديولوجيات المستوردة تقتحم الفضاء الليبي بقوة. حاولنا جمع الصفوف بتكوين تحالف للقوى الوطنية .. فدخله السوس وسيطرت عليه أطماع في الزعامة .. قدمت استقالتي قبل أن يضمحل هذا الأمل ليصبح في خبر كان. كنت أقول أن الوقت ليس وقت زعامات وانما هو وقت تضحيات.
تدحرجت كرة الثلج عبر هذه السنوات وحدثت الانقسامات السياسية وتمكنت بعض الدول من أن يكون لها وجود فعال في الملف الليبي. ولذلك فلا غرابة أن يحدث صراع بين فرنسا وايطاليا وانما الغريب أن يجرنا الى أن نتخاصم في التأييد لفرنسا أو ايطاليا.
أدرك أن هناك خلاف قوي داخلي ودولي حول استحقاقي الانتخابات الرئاسيىة والبرلمانية و الاستفتاء على مشروع الدستور.
خلاف داخلي بين مجالس النواب والدولة والرئاسي.
وخلاف خارجي بين فرنسا وايطاليا والامارات وبريطانيا وأسبانيا ومصر وأمريكا.
فرنسا تريد أن تتم عملية الانتخابات قبل نهاية هذا العام تنفيذا لبيان باريس الذي لم يصل الى صفة الوثيقة الملزمة لأن أيا من الأطراف الليبية التي حضرت الى باريس وقع عليه فهو مجرد بيان يعبر عن وجهة نظر قصر الاليزيه ولا يؤكد اتفاق الأطراف الليبية عليه بالتوقيع. وما الحملات الاعلامية التي تروج له الا استخفاف بالذاكرة الليبية. وما تكرار الأطراف الليبية التي حضرت اجتماع باريس بالتزامها بما تم الاتفاق عليه الا اما تضليل للشعبى الليبي او مجاملة للرئيس مكرون!! وفي كلتا الحالتين نفاق سياسي بامتياز فكيف لهم أن يطالبو بتنفيذ بيان لم يوقعوا عليه بل وانتقدوه قبل أن يغادروا باريس!!
ايطاليا ترى أن الانتخابات شأن ليبي صرف وتشترط ضمان الأطراف الليبية لنتائجها.
أطراف ليبية ترى أن الاسراع في اجراء الانتخابات بدون الاستفتاء على مشروع الدستور سيقود البلد الى مزيد من الصراعات قد تفضي الى تفكيك الدولة الليبية.
هنا يجب أن يتجلى الذكاء ولا ينبغي أن يطغى الغباء. الذكاء في أن نستثمر الخلافات الدولية بما يضمن سلاسة تنفيذ عملية الانتخابات دون الوقوع في مطبات التطاحن المسلح فيما بيننا لا قدر الله. بمعنى كيف نستثمر خلاف ايطاليا وفرنسا لمصلحتنا وهو مربط الفرس. لأننا كليبيين فقدنا القدرة على حل مشاكلنا فيما بيننا. فاستعنا بالأمم المتحدة التي كلفت ستة مبعوثين لها .. ثبت أن منهم من هو منحاز لفريق على حساب الفريق الآخر بضغط من دول أجنبية. وأخيرا اغيل الاتفاق السياسي لتمهد الطريق أمام بيان باريس!!!
الانقسام السياسي في ليبيا هو صناعة ليبية في الظاهر . ولكنها في الحقيقة والواقع .. صممت وجهزت وعلبت في الخارج وتم توزيعها في الداخل وتم قبولها والتهافت عليها كما يتهافتون على حكة طن.. وشيشة زيت.. وكيلو لحم أسباني!!
ما ندركه جميعا أن الصراعات في ليبيا تقودها دول أجنبية.. وما لم نضمن توافقهم على العملية الانتخابية فلن نضمن عدم تحريكهم لبيادقهم لرفض نتائج الانتخابات وبالتالي ادخال الدولة في صراعات.
من هنا على الذكاء الليبي أن يتجلى لاختيار أفضل المسارات التي تؤدي الى انتخابات ونتائج مقبولة من الجميع.
ليبيا اليوم في أمس الحاجة لأن يسمو أبناؤها عن التفكير السطحي .. ليدركوا أنها في حاجة ماسة الى تفاهم أبنائها على قواسم مشتركة وليس على تفاصيل.
ليبيا اليوم في حاجة الى استدعاء الوعي السياسي الناضح الذي يخدم مصالحها وليس استدعاء كراهية ظلم وقع عليها وأصبح مرفوضا من أبناء أدانوا واستنكروا واعتذروا على ما فعله أباؤهم وأجدادهم.
ليبيا اليوم في حاجة الى أن تضع الماضي خلفها وتركز على الحاضر القائم الآن ومتطلعة الى تحقيق واقع أفضل لها ولمواطنيها.. وتنأى عن التفكير القبلي الذي يحرض على الأخذ بالثأر حتى ولو دفعت الدية.
ليبيا اليوم في حاجة ماسة الى أصدقاء ولو كانوا من أعداء الأمس تأسيا بما فعلته اليابان وفرنسا.
اليابان ضربت بقنبلتين ذريتين قتلتا آلاف من اليابانيين وأضرت الى يومنا هذا بمئات الآلاف. لم تواصل البكاء والنحيب .. عملت بجد وكان أن وصلت الى ما وصلت اليه الان.
ألمانيا النازية .. احتلت فرنسا ونكلت بالفرنسيين .. قتلت من قتلت .. وسجنت من سجنت .. هدمت مدنا وهجرت الآلاف من الفرنسيين.
فرنسا اليوم حليف قوي لألمانيا ويعملان جنبا الى جنب ضمن الاتحاد الأوربي .. وهما من ضمن أكبر اقتصاديات العالم . وضعوا الماضي وراءهم .. وأقبلوا على الحياة ليصنعوا أفضل وأرقى أنواعها.
نحن نعيش في عالم أصبح قرية.. المصالح بين الدول متبادلة ومتداخلة أحيانا. ومتعارضة أحيانا أخرى . ولا يكفي أن نقول بقطع العلاقات مع ايطاليا لأنها استعمرتنا لفترة.. وننسى أن الأتراك والانجليز والفرنسيس والأسبان وحتى المالطيين فعلوا ذلك معنا على فترات متباعدة من التاريخ.
العالم تغير وعلينا أن نغير من نمط تفكيرنا. وأوجه كلامي لمن يفترض أنهم نخب سياسية أو لهم رأي وعلاقة بالمشهد السياسي أن يتحلوا بالحكمة والعقلانية والوعي والموضوعية.
نحن دولة نفطية .. ولا يمكن لأي دولة أن تحتل ليبيا لتأخذ نفطها بدون مقابل . هذا أمر مستحيل الحدوث في هذا القرن ووفق القيم الانسانية وسيادة الدول التي يتبناها العالم أجمع. والترويج لمثل هذه الأفكار ينم عن جهل وافلاس واسفاف.
نحن أمام خيارين لا ثالث لهما:
اما أن نلغي عقود كافة شركات النفط ونقفل المؤسسة الوطنية للنفط ونعتمد على الزراعة في اقتصادنا وقوتنا اليومي وتمويل الخدمات.
أو ننفتح على العالم ونكثر من الأصدقاء حولنا لنحقق أكبر الفوائد لبلدنا ومواطنينا ونكون رقما في المعادلة والعلاقات الدولية.
علينا أن نعيد اكتشاف ذاتنا الليبية.. لنمنع محاولات الهيمنة على دولتنا ومقدراتنا ولن يتحقق ذلك بالخطابات الخشبية والانغلاق الفكري والتفكير القبلي التأروي وانما بالاندماج في المجتمع الدولي المبني على تبادل المصالح والمنافع والمكاسب.
الدنيا أخذ وعطاء .. وليست رفضا بالمطلق.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
من المفارقات أن أزمات ليبيا ناتجة عن الانتخابات وأنتم تقولون لليبيين أن الانتخابات هي السبيل الى الاستقرار وتستحق التضحية بكل شئ وإن كانت محل صراع بين مختلف القوى المتدخلة في ليبيا. لقد وجد السفير الفلتان من يدافع عنه ويلقى الى النفايات رأي الشعب. عجبي.