غالبًا ما تخرج الشعوب من فترات الحروب والنزاعات والثورات، بحالة من الخراب والدمار الشامل على مختلف الأصعدة، ليجد المجتمع نفسه، بعد التخلص من النظام القديم، في مواجهة تحدٍ كبير، هو بناء نظام سياسي جديد وتفاهمات إجتماعية مستحدثة بل وقيم توافقية تتلاءم مع تطلعات الشعب، والإتفاق على ذلك يحتاج إلى حراك مجتمعي يخلق الرؤية الموحدة من أجل بناء النظام القانوني الذي يُفترض فيه أن يوفر البيئة، والشرعية، وأليات بناء النظام السياسي المنشود وترميم المنظومة القيمية للمجتمع، وفي غياب الأليات السابقة يسود التخبط العشوائي بلا ضابط ولا رقيب.
ومن أكثر الفئات تضررا من الفوضى والحروب والنزاعات هم فئة الأطفال، في كل معركة من معاركنا الكثيرة والمتنوعة، يٌعلن عن أسمائهم، ومقرات سكناهم، ونعي أهلهم، بل وحتى صورهم وهم صرعى المعارك الطاحنة بلا هدف، ولكن لا نسمع عمن جندهم وسلحهم ودفع بهم إلى ساحات الوغي، أولئك الذين قبضوا الثمن مستثرة أسمائهم، فمنهم من تحول إلى رجل أعمال (محترم!!) ومنهم من قفل راجعا إلى مهجره ومنهم من إستحود على ما وصل إلى يديه وإختار له مهجرا، ومنهم من لا يزال يسترزق من الدولة حتى يُلفظ فيهاجر، فليبيا ليست إلا ملاذا للمغامرين يستحودون على الأموال ويغربون، وقادتها النفعيون سكان فندق ما أن تختل خدماته حتى يتحولون إلى الفندق المقابل.
تسعى التنظيمات المتشددة إلى إستقطاب الأطفال الصغار الذين لا يحملون سوى نقاوة الفكر لتأجيج مشاعرهم وزرع حتمية الجهاد وقتال ما يسمونه “الكفار” في عقولهم، ليقع نقلهم بعد ذلك إلى ساحات القتال، ليصبح المنافس في الغنائم كافرا، وهذا ما نراه من مشادات بين المجموعات المسلحة المختلفة، فالتكفير وإخراج الآخر من الملة يستدعي تجنيد الأطفال للقيام بمهمة القضاء على الخصم بإسم الدين. ولطالما راينا الأطفال يعتلون الأسلحة الثقيلة ويقذفون الحمم دون تصورهم لما قاموا به من خراب ودمار، أو يفجرون أنفسهم بغية دخول الجنة، وكم من الأطفال يحاربون مع الكرامة في بنغازي بإسم محاربة الدواعش، ناهيك عن أطفال البوبات في مدن المنطقة الغربية، والمنضوين إلى أسماء كثيرة وعجيبة من التشكيلات المسلحة .
على مستوى المدارس ورياض الأطفال لم يترك الطفل لينمو طبيعيا، فالطفولة مرحلة تدريب وتعليم و إكتشاف ما حوله، وبناء علاقات مع رفاقه ومدرسيه، وهي فترة فرح ومرح وغناء وترديد أناشيد ولعب وتفتح والإقبال على الحياة، والمشاركة في المسابقات والكلمات الصباحية، وتتكفل بذلك إذاعة المدرسة التي تكتشف المواهب وتصقلها، هذه الحالة الطبيعية أغتيلت في الكثير من المدارس بتحميل الأطفال عبئ الأمة ووضع برامج على مزاج الكبار من منع الأناشيد والغناء وتجميد المسرح المدرسي، والإكتفاء بالقرآن و الأدعية الصباحية التي لا يستطيع الطفل فهمها ولا إستيعابها، هذا غير الدروس الدينية التي تعتني بالزجر والحرق بالنار لكل من ردد أغنية أو ترنم بنشيد أو نحث ثمثال أو صور صورة بشر أو حيوان. هذه الصورة تذكرني بما قاله أحد الإنجليز الذين أسلموا على بينة، قال “درست الإسلام وإقتنعت بتعاليمه، فرايت أن أذهب إلى السعودية لأشهر إسلامي، ووافق ذلك اليوم صلاة الجمعة فأستمعت إلى الخطبة، فراعني أنها ملئة بغضب الله والتكفير والتفجير والحرق بالنار، فعدت إلى بلدي وتأخر إسلامي عشرة سنوات أخرى تعلمت فيها أن الإسلام غير شيوخ الإسلام والفرق كبير، فاسلمت وحسُن إسلامي”.
تجنيد الأطفال أيديولوجيا سوى كان بطريقة براعم وأشبال الفاتح الذين رموا بانفسهم في اتون الحرب من أجل نظام حكم زائف أو بطريقة التشدد الحالية التي ساهمت في إرسال الأطفال إلى ساحات الحرب في ليبيا و سوريا والعراق، طريقة سيئة لا علاقة لها بالدين، بقدر ماهي إستغلال الفئات السابقة لبراءة الطفولة وغفلة أولياء أمورهم.
إضافة إلى التجنيد السياسي والأيديولوجي للطفولة هناك تجنيد أسري ينم عن جهل بمألات الأمور، فكثير من أولياء الأمور قد دفع بأبنائه إلى الإنضواء تحت قيادات قتالية مسلحة من أجل المال، فعوضا أن يقوم بتشجيع أبناءة على التأهيل العلمي أو التدريب المهني أو الثقني، يقوم بتوجيهه لحمل السلاح من أجل مرتبات أنية مغرية ولكن عواقبها وخيمة.
رغم الظروف الإقتصادية الحالية إلا أنه لم ينقضي الأوان لخروج كل المنضوين تحت التشكيلات المسلحة ممن يقل أعمارهم عن أربعة وعشرون سنة وإيجاد فرص عمل أخرى ستكون خيراً لهم ولوطنهم، وهذا ما يجب على الدولة القيام به ولو بدفع مرتبات مؤقتة إلى حين حصولهم على عمل، وبذلك تنتهي العديد من التشكيلات المسلحة التي تعتمد على صغار السن، وتتمكن الدول من إعادة هيكلة الجيش مرة أخرى.
والدستور، وهو رأس أي نظام قانوني ومظلته، يضع أسس النظام السياسي الجديد، ويحدد شكله وطبيعته، ويحدِّد السلطات العامة، ووظائفها، وكيفية توليها وممارستها وانتقالها، وعلاقاتها البينية. كما يحدِّد، ويحمي، الحقوق الأساسية للمواطنين والحريات العامة، ويتيح للشعب محاسبة حكامه، ويوفر له الآليات اللازمة لتغييرهم، من دون عنف، عندما يتطلب الأمر.
نحتاج -إذن- إلى صوغ دستور ديمقراطي، يحظى بإجماع مختلف قوى وفئات المجتمع، ويكون قادرًا على البقاء فترة طويلة نسبيًّا، لكن ظروف المجتمع الخارج من الأزمة لا تسمح بذلك؛ فآثار المرحلة الماضية تلقي بظلالها القاتمة على المشهد، فحجم الانتهاكات الحاصلة مرعب، والثقة شبه معدومة بين فئات المجتمع، وفلول النظام القديم تبذل وسعها لاسترجاع نفوذها، والقوى المنتصرة، في الثورة أو في الحرب، تسعى لفرض رؤيتها وشروطها، والتدخّلات الخارجية على أشُدِّها.
في مناخات صعبة ومعيقة كهذه، لا بدّ من إيجاد حلول يقبلها الجميع، سواء في اختيار فريق المشرِّعين الدستوريين (الهيئة التأسيسية)؛ حيث لا بدّ من تمثيل جميع الفئات من دون استثناء، أم في صيغة مسودة الدستور؛ حيث لا بدّ من صيغة مقبولة من الجميع، وتتيح فرص التعايش والتعاون وانتقال السلطة بسلاسة، وحتى تكون كذلك، يُفترض بها أن تعبر عن رأي الأغلبية، من دون أن تهدر حق الأقلية، (أغلبية وأقلية بالمعنى السياسي).
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً