الإعدام شنقاً، كان مصير الصحفي الألماني يوليوس شترايخر(*)، بسبب إدانته بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وضد السلام، والتحريض على العنف والقتل. ضمن محكمة “نورمبرغ” التي تُعَد من أشهر محاكمات مجرمي الحرب التي شهدها التاريخ المعاصر. وعُقدت أولى جلساتها في 20 نوفمبر 1945. ومثُل أمام هذه المحكمة مجرمو الحرب الذين ارتكبوا فظائع بحق الإنسانية في أوروبا. وتم تنفيذ أحـكام بالإعدام لعـدد من المسـؤولين الحكوميين والقادة العسكريين المدانين، وكان يوليوس شترايخر الصحفي الوحيد بينهم. ورغم عدم تورطه المادي المباشر إلا أن تهمة التحريض على القتل وإثارة الرأي العام لارتكاب جرائم وحشية وبشعة كانت سبباً كافياً بالنسبة للمحكمة لإصدار وتنفيذ حكم الإعدام في حقه.
وخلال محاكمة “نورمبرغ” تم التأكيد على الدور الحاسم للدعاية في الحروب الحديثة والتي تم فيها تحديد ثلاث خطوط رئيسية للحرب الشاملة: وهي الحرب باستخدام الأسلحة البرية والجوية والبحرية، والحرب الاقتصادية، وثالثاً الحرب الدعائية التي تعد جزءا أساسيا في كل حرب. ليصبح المنخرطون في العمل الصحفي جزءا فاعلاً ومهماً في تلك الحروب. كما أنهم في المقابل لن يكونوا في مأمن من الملاحقة القضائية والمحاكمة والوقوف في قفص الاتهام مع مجرمي الحرب الآخرين. وهو ما دفع الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى تبني قرار يدين كل أشكال الدعاية التي تُصّمم أو من المحتمل أن تثير أو تشجع أيَّ تهديدٍ أو خرقٍ للسلام أو تدفع لارتكاب أي عمل من أعمال العدوان.
لم تكن محاكمة الصحفي الألماني في نورمبرغ، سابقة تاريخية يتيمة، وإن لم تخلُ من التوظيف السياسي أو ما يوصف بـ(عدالة المنتصر). ففي 8 نوفمبر 1994 أنشأ مجلس الأمن الدولي المحكمة الجنائية لرواندا، وكان لهذه المحكمة التابعة للأمم المتحدة اختصاص النظر في جميع انتهاكات حقوق الإنسان الدولية المرتكبة في رواندا خلال فترة الحرب الأهلية. وقد مَثَل أما م المحكمة ثلاثة من أصحاب وسائل الإعلام الذين تم اتهامهم باستخدام وسائل الإعلام الخاصة بهم للتحريض على الكراهية العرقية والتحريض على القتل وانتهاك حقوق الإنسان. وقد أصدرت المحكمة الدولية سبعة وعشرين حكماً على ثلاثة وثلاثين متهماً. ومن المعروف أن الإعلام الرواندي كان له دور كبير في أعمال القتل الوحشية التي دارت خلال الحرب الأهلية في البلاد.
وأيضاً، واجه عدد من الصحفيين وبعض المؤسسات الإعلامية الصربية تٌهماً بالتورط في قضايا جرائم حرب خلال حروب البلقان في الفترة 1991-1995. بعد أن قدمت رابطة الصحافيين الصربيين المستقلة للقضاء أدلة ضد أربع مجموعات إعلامية صربية بارزة ورؤساء تحريرها، بسبب تحريضهم على الكراهية العرقية، وترويجهم للأخبار المُضلِلة وإثارة الرأي العام التي قادت إلى ارتكاب أعمال شنيعة وجرائم حرب في كرواتيا والبوسنة”.
في بلداننا العربية ومنذ اندلاع الحروب في كثير منها ضمن ما يعرف بـ”الربيع العربي”، تصدرت كثير من القنوات العربية المشهد الإعلامي، وبعض القنوات الدولية، وعدد كبير من القنوات المحلية التي لا حصر لها والتي عملت أغلبها على إثارة الرأي العام والتحريض الطائفي والمذهبي والقبلي والأيديولوجي…، وساهمت بفاعلية في إشعال الحروب وارتكاب المذابح الجماعية وتهجير الملايين من ديارهم، والاعتقالات العشوائية الواسعة لعشرات الآلاف من المدنيين وتغييبهم في السجون السرية. ولقد ارتكب الإعلاميون من خلال تقاريرهم المُضلِلة للرأي العام جرائم حرب لا تقل بشاعة عما اقترفه أمراء الحرب من كل الأطراف.
يدرك الجميع أن بوسع وسائل الإعلام، وخصوصاً، الفضائيات أن تقلب معادلة الحرب، وتحقق السلام فعلاً، وأنها قادرة على أن تُشيع خطاب المحبة والتسامح بدلاً من خطاب الكراهية والقتل والانتقام. ولو لم يكن أكثرهم يدرك خطورة الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام لما اقتحمت أغلب رؤوس الأموال- الصالح منهم والفاسد- هذا المجال.
كما أنه لا يخفى على الكثيرين أن الفضائيات هي محرقة لرأس المال وتتطلب ضخ الملايين بلا مقابل يذكر، إلا إذا تم توظيف هذه الفضائيات الخاصة من أجل الابتزاز والتشهير والضغط على صناع القرار من أجل منصب أو مال أو تمرير صفقات محلية ودولية، أو توظيفها للدعاية السياسية. وفي الأغلب، ليس هناك من يرغب بإحسان وعمل خيري ويلجأ لإنفاق كل تلك الملايين على محطة فضائية. ولكن، وفي ظل هذه الفوضى لا أحد يفكر في أنه قد يواجه العدالة يوما ما.
وكما لم يخطر ببال الصحفي الألماني “يوليوس شترايخر” وبعد سنوات طوال أن تكون نهايته الإعدام شنقاً بسبب تحريضه على القتل والانتقام، وبث روح الكراهية والعدوان، فإن كثيرا من الصحفيين المتحمسين اليوم على الشاشات ويحرضون على القتل، و(الدعس) والسحق، حسب تعبيراتهم الرائجة هذه الأيام، يظنون أنهم فعلاً في مأمن من الملاحقة القضائية والاقتصاص منهم. وحالة الحرب والفوضى بالتأكيد لن تستمر للأبد. وهذه دعوة للحقوقيين والصحفيين وكل المتضررين من الجرائم التي كانت وسائل الاعلام المحلية والعربية والدولية سبباً في اقترافها أن يبادروا لرفع دعاوى قضائية ضد هذه المؤسسات الإعلامية بمختلف انتماءاتها وتوجهاتها والتي كانت أحد الأسباب الرئيسة لما أُرتُكب ويُرتكب من جرائم وفظائع ضد الإنسانية وتأجيجها لحالة الكراهية والاقتتال والمذابح المريعة بين أبناء البلد الواحد، والتي قد تستمر آثارها الوخيمة لأجيال قادمة.
* سبق لي نشر المقال في بوابة الوسط | السبت 4 أبريل 2015
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً