الإنسان يكتسب آدميته في مجتمع بشري يتعايش فيه مع الآخرين، لكنه حتى في هذا المجتمع يكون رهين رغباته وغرائزه، تدفعه هذه الرغبات إلى السعي في حماية كيانه وإشباع هذه الرغبات، كنتيجة لهذا السعي، يحدث أن تصطدم هذه الرغبات والغرائز برغبات وغرائز الآخرين.
لحل إشكالية “تصادم” الرغبات سعى المجتمع الإنساني إلى وضع ضوابط تربط علاقات الأشخاص ببعضهم البعض، حددت هذه الضوابط الحقوق المستحقة على الفرد للجماعة والواجبات المستحقة للفرد على الجماعة.
تعددت مصادر هذه الضواط، تطور بعضها بحكم تطور المجتمع الإنساني وأسس لبعضها العقائد والأديان التي قبل بها البشر.
وأصبح لهذه الضوابط حكم الإلزام بحكم الضمير الذي يعتقد فيها أو بقوة المؤسسة التي تشرف على إنفاذ هذه الضوابط.
إذا، هذا الإلزام، الاخلاقي بحكم الضمير والعقيدة أو بقوة المؤسسة، هو جوهر ما يعرف بالقانون، والقانون على هذا النحو هو “مقياس” الحقوق والواجبات.
عدم اكتساب هذه الحقوق أو عدم احترام الواجبات تجاه المجتمع الإنساني الذي نعيش في إطاره يعتبر إخلال بالقانون يؤدي إلى الفوضى والاختلاف والجور.
هكذا يُفهم أن القانون هو مانع للفوضى ومحجم لرغبات الناس ونزعاتهم التي تصطدم برغبات الآخرين ونزعاتهم، لذلك لا يخضع القانون للناس وإنما يخضع الناس القانون.
إشكاليات التوافق بين مجلس الدولة والبرلمان لا تكمن في معضلة مفهوم القانون، فهذا أمر واضح، لكنهما استطاعا توظيفه بشكل ذكي لا يخلو من لؤم، لذلك تم التوافق بينهم في جل القضايا، لكنهما لم يتوافقا على قانون ترشح الرئيس، وطبعا بعيد عن النوايا المبيتة من كلا الفريقين في ترسيخ الاختلاف بينهما، فقد وجدا ضالتهما في هذا الأمر.
مجلس الدولة لا يريد لحفتر أن يترشح، ويرى فيه خصم سياسي أجاز لنفسه أن ينعثه بكل الصفات التي قد تنطبق أو لا تنطبق عليه، وهذا أمر لا جدال فيه، فحفتر أعلن حربه على الإسلاميين جملة وتفصيلا، بداية بحجة محاربة الإرهاب وقد نجح فيه وحقق مكاسب سياسية ودعم كبيرين بسببه، وفشل لأنه جعل كل الإسلاميين أعداء وليسوا فقط خصوم سياسيين، لهم أيضا تحالفاتهم كما هو له تحالفاته، وتحالفاتهم لا تقل قوة وسطوة عن تحالفاته، لذلك استطاعوا تحطيم طموحاته في الاستيلاء على طرابلس والوصول إلى الحكم بقوة السلاح.
مجلس النواب، متمثلا في رئاسة المجلس ومن يدور في فلكه، بتحالفه مع حفتر استطاع ترسيخ قدمه، لكن: هل مجلس النواب فعلا يريد حفتر، أم أنه تحالف الضرورة؟.
الحقيقة الانتخابات التي تم تعطيلها، وكذلك محاولات عقيلة في الوصول إلى رئاسة المجلس الرئاسي من خلال خارطة برلين التي انتجت حكومة الوحدة الوطنية، وكذلك ترشحه لانتخابات 24 ديسمبر 2021 التي تم تعطيلها تؤكد بما لا يدعو مجال للشك أن تحالف عقيلة – حفتر هو تحالف الضرورة وليس تحالف المبدأ، وتبين أيضا نقطة قد تغيب عن البعض وهي أن عقيلة يعتقد جازما أن ليس لحفتر نصيب في الفوز بالانتخابات، وهو بذلك يقبل به منافسا رئيسيا له، ولا يخشى منافسته، هذا الاعتقاد هو عقدة أي توافق بين مجلس الدولة والبرلمان، فإصرار عقيلة يسعى من خلاله إلى طمأنة حفتر بخوض الانتخابات وبالتالي كسب دعمه العسكري، وفي نفس الوقت يدرك تماما أن ليس لحفتر نصيب في كسبها، لكنه سيضمن له بقائه قائدا للجيش من خلال قوانين الانتخابات وشروط الترشح، فالفقرة الأخيرة من المادة 19 من التعديل 13 تقول “ويحدد القانون كيفية ضوابط وشروط ترشيح رئيس الدولة ومتولي المناصب وينظم استقالتهم من عملهم. وآلية عودتهم لسابق عملهم في حالة عدم الفوز”، أي أن عودتهم إلى سابق عملهم سيضمنه القانون الانتخابي.
وهذا الأمر سبق أن تضمنه القانون الانتخابي الصادر عن المجلس في انتخابات ديسمبر 21 التي تم تعطيلها، والتي اشترطت العودة إلى الوظيفة في حالة عدم الفوز.
لهذا استطاع عقيلة، وهو رجل القانون، من خلال البرلمان الذي يهيمن عليه، أن يطوع القانون لمصلحة حليفه ومنافسه من خلال اشتراط إلغاء قانون الجنسية والصفة العسكرية عن المترشحين للرئاسة، وإن كان عقيلة صادق في نيته في عدم إقصاء أي مواطن لانعكس هذا الأمر في شروط الترشح جميعها للبرلمان والشيوخ والمناصب العليا، إلا أن هذا الشرط انتفى فقط في صفة ترشح الرئيس، عمدا في اعتقادي للأسباب التي أشرت إليها أعلاه.
المشكلة التي لا تتضح هي إصرار حفتر في خوض الانتخابات ببدلته العسكرية وجنسيته الأجنبية، فإذا كان حفتر يؤمن بنجاحه ونيل المنصب من خلال صندوق الانتخابات، إذا: لماذا يصر على أن لا يتنحى عن قيادة الجيش ويتخلى عن جنسيته؟.
إشكالية الوصول إلى الانتخابات في ليبيا كمثلث الحريق، له ثلاثة أضلع، هذه الأضلع هي حفتر وقودها وعقيلة شضية اشتعالها والمشري مادتها، فإذا تخلى حفتر عن صفته العسكرية وجنسيته أو تخلى عن خوض الانتخابات، فلن يجد عقيلة مبرر لتطويع قانون الانتخابات لرغبات حفتر، وينتهى بالتالي إصرار المشري عن عدم قبول مزدوجي الحنسية، وهكذا لن تبقى هناك مواد خلافية بين الفرقاء الليبيين.
الخلاصة، حين لا تكون النوايا بريئة، يتم تعطيل القانون بحجج واهية، أو يتم تطويعها، وهذا يفسد قيمتها كأدوات ضابطة للسلوك الاجتماعي، مما يكرس الخلاف والصراع، والخاسر هو المواطن الذي ينظر لهذه الأمور ولا يدرك قوته فيستتمرها في التغيير.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً