التحولات الهائلة والأحداث العظيمة التي تحدث في منطقة ما تجر ورائها تحديات كبيرة ومذهلة، تؤدي في أحايين كثيرة إلى استقطاب حاد بين الأيديولوجيات – الموجودة أو الناتجة عن الحدث – وينتج عن هذا الاستقطاب غياب صوت العقل وانعدام القدرة على الاستماع إلى الصوت الآخر، وتنجر أطراف الصراع إلى وضع الخصم في خانة العدو.
بمعنى آخر يعمل الخلاف الأيديولوجي على خلق العدو من خلال عدم الاستعداد لقبول أي نقد يقلل من شأن ما يدعيه، ويتطور الأمر حتى يندفع في خوض حربًا يصبغ عليها منطق “الخير مقابل الشر”، رغم أنها كلها شر.
يصنف البعض الحركة القومية العربية والحركة الإسلامية كحركات أيديولوجية كبرى تحمل مشاريع فشلت في تحقيقها، وقد أدى هذا الفشل إلى تفجر الصراع بين الحركتين، إلا أن هذا الصراع – كالذي يجري الآن في ليبيا مثلا – هو صراع فوضوي تغيب عنه كل قيمة وكل منطق عدى منطق التبرير، ويتناقض تماما مع السمات الأساسية للديمقراطية التي جوهرها قبول المخالف، وحق انتماء المواطنين إلى إيديولوجية وأفكار معينة والإيمان بها دون الإساءة إلى أيديولوجيات وأفكار وعقائد المخالفين، بل قبولهما واحترام تلك الإيديولوجيات الأخرى والتعايش معا.
من مساوي الأيديولوجيات أن لها سلطة على معتنقيها، كما وأنها تفتح الباب على مصرعيه للتنديد بالخصوم والتبرير للموالين، فالإسلامي مثلا يعتقد انه يملك الحقيقة كاملة، ويبرر أخطائه على أنها “اجتهاد لم يوافق الصواب” وأخطاء غيره “كبائر تستوجب التوبة أو العقاب”.
ولعل من أكبر مشاكل الإسلاميين في تقديري تكمن في مفهوم التمكين، فهناك خلط – في اعتقادي – بين التمكين على الجغرافيا والتراب والتمكين الروحي على القلوب، فالتمكين على الجغرافيا سلطة سياسية متغيرة لا ثوابت لها، وأداتها القوة المادية، لذلك سعت التيارات الإسلامية في ليبيا إلى امتلاك السلاح والاستحواذ عليه منذ ثورة فبراير، وحرض بعض الشيوخ شباب بنغازي على عدم الانضمام للجيش والشرطة التي يعتبروها أداة للدولة العلمانية، بل وصل الأمر بهم أن طالبوا الشباب بعدم تسليم أسلحتهم حتى يتمكنوا من إقامة “شرع الله” على الأرض حسب فهمهم.
لا يختلف هذا النوع من التمكين عن الاستعمار، فكما يرى الإسلاميين الفتوحات الإسلامية باعتبارها تحرير للعباد من سلطة العباد، يرى الغرب أن استعمارهم للشعوب “البدائية” التي استعمروها بقوة السلاح تطويرا لهذه الشعوب، وانتشال لها من التخلف.
والنتيجة في كلتا الحالتين هي الاستفادة من ريع الأرض التي فتحت أو استعمرت، كما عبرت عن ذلك كتب التراث ونقل على لسان أحد الخلفاء، حين شاهد غيمة تمر من فوق رأسه، فنظر إليها وخاطبها قائلا لها “أمطري حيث شئت فخراجك سيأتيني”.
وقد “فلت” لسان بعض هيئات الفتاوي العربية في خضم السجال السياسي الذي تخوضه بعض الأنظمة إلى اعتبار “فتح القسطنطينية” احتلال لها كما جاء في بيانها الذي نصه “بُنيت آيا صوفيا ككنيسة خلال العصر البيزنطي عام 537 ميلادية، وظلت لمدة 916 سنة حتى “احتل العثمانيون” إسطنبول عام 1453، فحولوا المبنى إلى مسجد.”
المهم، الذي أود أن اذهب إليه في عابر حديثي هذا أن التمكين على الأرض هو نوع من الاستعمار لا يختلف أن قام به المسلم بغرض تمكين الدين كما يعتقد، أو غير المسلم بدعوى تطوير الشعوب البدائية كما يدعو، لكن التمكين الحقيقي هو تمكين الدين في القلوب، التمكين الروحي لدين الله في قلوب عباده، وبالتالي لا تهم الجغرافيا التي يعيش فيها من تمكن دين الله من قلبه، وقد فهم الاستعمار الغربي هذه الحقيقة فلجاء عقب حروبه وانتصارته إلى المفهوم الذي عرف بمفهوم كسب قلوب وعقول الخصوم “winning hearts and minds”.
مفهوم التمكين قضية خطيرة تحتاج إلى مزيد من البحث، لكن الإسلام المؤذلج أو الإسلام السياسي وضع كل بيضه في هذه القضية في سلة واحدة، ألا وهي إقامة شرع الله على الأرض كما تصوره له أدبياته، بغض النظر: هل هذه الفكرة قابلة للتطبيق ومقبولة؟، أما أنها ستواجه تحديات وأسئلة تحتاج لإجابات دون اللجوء إلى حدة السيف وفوهات البنادق ونيران المدافع؟!.
ليس الإسلاميين وحدهم من أصابهم هذا الداء، داء محاولة التمكين لإيديولوجية بقيادة المشهد السياسي ورسم خطوطه العريضة وتحديد توجهاته.
هذا “الداء” تجاوز الإسلاميين إلى غيرهم من التيارات وأصحاب التوجهات والأهواء الفكرية والسياسية، فالفكر القومي الذي تبنته أوروبا في القرن التاسع عشر هو فكر شوفيني متسلط ومستبد افرز الصهيونية والفاشية والنازية التي اضطهدت غيرها من الشعوب وهددت السلم العالمي ولا تزال تحت غطاء التفوق العرقي، وسببت في كوارت وحروب كونية ما زالت اثارها شاهدا على فضاعتها.
رغم ان العصبية العربية متوغلة في التاريخ، وحققت اوج مجدها في الدولة الاموية كما يعتقد الكثير من المؤرخين، الا ان فكرة القومية العربية في التاريخ المعاصر ظهرت كايدلوجية قومية على يد عدد من المفكرين العرب، كردة فعل لما أظهرته القومية الطورانية تجاه العرب في فكرتها العنصرية التي تماهت مع الفكر القومي الأوروبي، تلك الفكرة التي تنطلق من نظرة الاستعلاء العرقي. فقد عمل الاتراك على “تتريك” العرب واقصاء كل مقوماتهم الأساسية في الدولة العثمانية المنهارة بعد الحرب العالمية الأولى، واقتربت من الفكر الأوروبي الذي إنطلق من التعصب العرقي للجنس الآري الذي لا زلنا نراه حتى يومنا هذا، خاصة في الحركة الصهيونية التي تتبني مفهوم “شعب الله المختار” كركيزة لهذه الايدلوجية العنصرية. وكان صاحب هذا التوجه الاقصائي هو حزب الاتحاد والترقي القومي، وتوج هذا التوجه على يد كمال أتاتورك حين وصل الى الحكم بعد سقوط الخلافة الإسلامية، فألغى اللغة العربية في المدارس وازال الكثير من شواهد الثقافة العربية واثارها على تاريخ تركيا.
ظهرت إذا النزعة القومية من المشاكل الحقيقية التي واجهت القومية العربية – التي تبنت المفهوم الاوروبي للقومية – الا ان مفكريها لا يملكون فكرة واضحة ومحددة عن الحدود الجغرافية للدولة القومية التي ينادون بها، لان هذه الحدود غير موجودة على الواقع. كما وان بعض التيارت القومية العربية، ربما تأثرا بالفكر القومي الاوربي الذي نشاء مناهض لسلطة الكنيسة (وليس للدين كما قد يعتقد البعض) قد شطح في غلوه، كحزب البعث مثلا الذي ذهب الغلو ببعض رجالاته درجة الكفر والعبث حين قالوا: (نحن البعث والدنيا بنيناها… لو امتدت يد الله إلى البعث قطعناها)… لذلك فهم، بالاضافة الى ان طرحهم هذا اصطدم بوجود أعراق اخرى تشاركه الجغرافيا، اسسوا لقطيعة مع الشعوب التي انتموا اليها، لانها مست المقدس عند تلك الشعوب، لذلك عاشت فكرة الحزب فقط في كنف الحزب دون ان تتكون لها قاعدة شعبية تحتضنها، بإسثتناء اتساع قاعدتها حين حكم حزب البعث في العراق وفي سوريا، بحكم سلطة الحزب وليس بحكم الايمان بمبادئه.
وبعيد عن الشطحات الالحادية للحزب، أشير الى ما يهمنا في سياق سلطة الايدلوجية، تحديدا الى المادة السادسة من مبادي الحزب والتي تقول: “حزب البعث العربي الاشتراكي حزب انقلابي يؤمن بأن أهدافه الرئيسية في بعث القومية وبناء الاشتراكية لا يمكن أن تتم إلا عن طريق الانقلاب والنضال…. وان الاعتماد على التطور البطيء والاكتفاء بالإصلاح الجزئي السطحي يهددان هذه الأهداف بالفشل والضياع”.
من الواضح من هذا المبدأ ان حزب البعث – كغيره من الأحزاب القومية- حزب شمولي لا يختلف عن الاحزاب الدينية، يرفض الاخر ويعمل على اقصائه بالقوة إن تمكن، ويرى في الانقلابات اداة لتحقيق طموحاته واهذافه وبالتالي لا يؤمن بالعمل السياسي الديمقراطي الذي تتسع فيه ساحة الوطن للتنافس، ولا يتعد إمانه بالعمل السياسي حدود ما يسمح به هذا العمل السياسي من مساعدته وتمكينه في الوصول الى السلطة. هو لا يختلف عن التيار الاسلامي السياسي، الذي يسعى الى السلطة لتحقيق ما يراه من اهذاف لا تتحق له وهو بعيد عن السلطة. ولعل اخطر مبادئ حزب البعث (وربما كل الاحزاب القومية تشاركه هذا المبدأ) المادة الحادية عشر من مبادئه والتي صيغت على النحو التالي: “يجلى عن الوطن العربي كل من دعا أو انضم إلى تكتل عنصري ضد العرب”.
لا يخفى عن عاقل ان هذا المبدأ مبدأ شوفيني صرف وهدام يهدد السلم الاجتماعي، وقد يسبب في كوارت ونزعات وحروب اهلية، ذلك ان ما اصطلح على تسميتها بالبلاد العربية بحكم تجدر اللغة العربية فيها بسبب تأثير الدين تسكنها اقواما اخرى غير العرب، اقوام العديد منها يتطلع الى ان يكون له حضوره في الساحة على قاعدة المساوة في المواطنه. وللاسف رغم فشل الحركات القومية العربية وانحسار مريديها، الا ان الولاء للفكر القومي ما زال يضع كل من يخالف هذا الفكر في خانة العدو وليس خانة الخصم السياسي – خلافا لدول الغرب التي تجاوزت الخلاف الايدلوجي بتبنيها خيار المواطنة – وبذلك هو يعمل على تضيع فرص التعايش مع الخصوم السياسيين. لذلك نرى اكثر المدافعين عن انظمة الاستبداد التي ثارت عليها شعوبها في العام 2011 هم القومين العرب ناصريين وبعثين وانصار نظام معمر القذافي، بسبب ان هذه الانظمة التي انقلبت شعوبها عليها كانت تحمل شعار القومية العربية. بل مازالوا… تحت سلطان الايدلوجية القومية واحيانا اتخادها كشعار فقط… يدافعون عن الردة والثورات المضادة لانتفاضات الربيع العربي. وقد برز هذا واضحا في موقف القوميين من الاحداث التي تلت الثورات، فهم لا يخفون عدائهم – وليس خصومتهم- مع تيار الإسلام السياسي ، بل يباركون كل محاولت القضاء على هذا التيار ومحاولات اقصائه.
هذا السلوك الاقصائي للتياررات الايدلوجية إسلامية التوجه كانت او قومية او حتى مدعي الليبراليه، يجعل هذه التيارت قابلة للانحراف بشكل واضح نحو الاستبداد، ويجعل حلم الديمقراطية الذي سعت الثورات والانتفاضات الى تحقيقه مجرد حلم طوباوي يتلاشى في ظل هيمنة الايدلوجيا وخدمتها عوضا عن خدمة الانسان نفسه.
لم تكن الجغرافيا على هذه الدرجة من الاستقرار من بعد مرحلة الاستعمار، فالحدود الجغرافيا الحالية مستقرة تقريبا لما يزيد عن النصف قرن، وهذا لما يسبق ان حدث في الماضي. فالإمبراطورية الرومانية شملت كل جنوب اوربا وساحل شمال افريقيا بالكامل بالإضافة الى إنجلترا، وكان البحر الأبيض بحر روماني بلا شريك، وفي عهد كركلا ابن الامبراطور سبتيميوس منحت حق المواطنة لكل سكان الإمبراطورية. والامبرراطورية العثمانية تقريبا حكمت نفس الرقعة الجغرافيا التي حكمتها روما مساحتا. واستطاعت البرتغال ان تسيطر على جل قارة أمريكا الجنوبية وتنشر لغتها بها، كما سيطرت على أجزاء كبيرة من افريقيا ووصلت سلطتها الى حدود الصين وجنوب شرق اسيا. واستعمرت اسبانيا أجزاء كبيرة من ألامريكتين. وأصبحت الشمس لا تغيب عن اراضي الإمبراطورية البريطانية من فرط اتساعها. لكن مع منتصف القرن العشرين انحسرت كل هذه الامبراطوريات وانكمشت الى حدودها الإقليمية الحالية التي لا يكاد بعظها يظهر على الخارطة. وتكون الوضع الجغرافي الحالي بالحدود الوطنية للدول الإقليمية التي نراها الان في مختلف بلاد العالم، وقد وضعت هذه الحدود لتحمي مصالح الدول التي سادت وتسود العالم في العقود الأخيرة من القرن الماضي وهذا القرن.
والى ان تتبدل مصالح الدول القادرة، وتنتج حروب تعمل على انتاج حدود جغرافية أخرى، سيضل موطن الانسان هو هذا الحيز الجغرافيا الذي نسميه بلادنا ووطننا، وندافع عنه ونسعى لان يظل متحرر متمتع بسيادته الوطنية. لكن، في تقديري ان اجل مظاهر السيادة الوطنية، يظهر واضحا في رفاهية المواطن وتحريره من الحاجة، وتمكينه من التعبير عن نفسه، فإن غابت هذه المظاهر لا يكون للسيادة معنى ويغيب بالتالي مفهوم الوطن، سواء كان النظام المهيمن يسري فيه دماء المواطن او دماء الأجنبي، فالوطن ليس الجغرافيا بل ما تحققه هذه الجغرافيا من منافع للإنسان الذي يقطن هذه الجغرافيا، وربما نرى هذا الامر جليا في المجتمعات البدائية الرعوية قبل عصور تكون الدول الحديثة، فالجماعت الرعوية تنتقل خلف قطعانهم الى مواطن الكلى، وكل الأرض التي يتواجد فيها العشب الذي يغدي حيواناتهم هو ارضهم ووطنهم. ايدلوجية الوطن اذا هي تلك الايدلوجية التي تنادي بــ”المواطن أولا”، تنادي بكرامته كانسان له حق االانتفاع بمقدرات وطنه دون تمييز، له حق في ان تتساوي فرصته في الحياة كغيره من شركائه في الوطن، له حق التمتع بالحرية الكاملة في ظل القانون. وفي هذا يظهر الفرق جليا واضحا بين اوطان الايدلوجيات التي تخدم الفكرة وايدلوجية الوطن الذي يخدم الانسان. لهذا، على الانسان الصادق ان يضع نصب عينيه ان الأوطان ليست اوطان للايدلوجيات وانما هي اوطان لتحقيق منافع للإنسان الذي تنتصب قامته فوق ارضه، علينا ان ندافع على ايدلوجية الوطن وننبذ وطن الايدلوجيات حتى يعيش انساننا كريما فوق تراب وطنه.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً