إنه ضرب من العبث، القفز إلى الحديث عن “الحوار والمصالحة”، قبل هدم تلك السياجات، والأسوار الحصينة من منظومة الأفكار، والمعتقدات الجامدة، وأوهام امتلاك الحقيقة المطلقة من قبل جميع الأطراف، بلا استثناء، علينا قبل كل شيء تحرير عقولنا من أسر الدوغما والدوغما المضادة، قبل مجرد التفكير في الحوار وفي المصالحة؛ فإنه من الواضح أن كل ما فعله المعارضون، أو المنتصرون الجدد، هو خلق دوغما جديدة مضادة وانتقلوا من تقديس النظام والمعتقدات والأفكار القديمة، إلى تقديس منظومات فكرية ومُعتقديّة أخرى، متباينة ومتصارعة فيما بينها، وادعى كل طرف بأنه، وحده، من يمتلك الحقيقة المطلقة، ووحده من يمتلك الحل النهائي والحاسم، وأن كل من يخالفه الرأي، فهو إما خائن وإما كافر وإما متآمر.. إلخ، ولذلك كان اللجوء للعنف بكل أشكاله ومظاهره هو السبيل الوحيدة لحسم الخلاف.
وقبل تناول الحالة الليبية كنموذج لتفشي الظاهرة الدوغمائية؛ أعتقد بأن علينا التوقف قليلاً لتوضيح مفهوم “الدوغمائية”، أو “الدوجماطيقيا”، وهي: “تعريب لكلمة (Dogmatism)، ولها ترجمات كثيرة إلى العربية، مثل: وثوقية قَطعيّة، توكِيديّة، إيقَانية، مُعتقدية. وهي تعني الاعتقاد الجازم واليقين المطلق، وإنكار الآخر، ورفضه باعتباره على باطل مطلق، ومن ثَمَّ فهي مبدأ التعصُّب، وسمة لكل متزمت، ومنشأ الحروب العقائدية”.(1)
ويرد تعـريف الدوغمائية في موسوعة لالاند الفلسفية بأن الدوغمائية Dogmatism: هي حيلة فكرية مخاتلة قائمة على تأكيد المرء لمعتقداته بأمر وسُلطان، ودون القبول بأنها قد تحتمل شيئًا من النقص أو الخطأ أو أن تطويرها لازم وضامن لاستمرار فاعليتها.(2)
وقبل أن يتوصل مكتشفها الباحث والمفكر الأميركي ميلتون روكيش إلى البلورة النهائية لمفهوم الدوغمائية، كان قد انطلق من مفهوم “الصرامة العقلية”، والتي عرفها بأنها عدم قدرة الشخص على تغيير جهازه الفكري، أو العقلي، عندما تتطلَّب الشروط الموضوعية ذلك، وعدم القدرة على إعادة ترتيب أو تركيب حقلٍ ما، توجد فيه عدة حلول لمشكلة واحدة، وذلك بهدف حل هذه المشكلة بفاعلية أكبر.(3)
وثمة مغالطة شائعة، وهي أن يقتصر مفهوم التطرف والتعصب على المجموعات، أو الفصائل الدينية، وحدها وهو ما ينفيه تمامًا الباحثون والمفكرون الذين تناولوا بالدراسة مفهوم “الدوغمائية Dogmatism” ومن بينهم ميلتون روكيش، الذي يُعَد أول من تناول بالبحث مفهوم الدوغمائية وأثرها على الجهاز الفكري وآلية اشتغال العقل الدوغمائي.
وقد أشار إلى ذلك هاشم صالح بقوله: “إن الموضوع الذي يهم ميلتون روكيش، ليس مضمون الأيديولوجيا (هل هو مضمون ديني أم فلسفي أم أيديولوجي حديث، إلخ)، وإنما آلية ارتباط العقلية الدوغمائية بنظام أيديولوجي معين، ويعتبر ميلتون روكيش أن العقلية الدوغمائية ترتكز أساسًا على ثنائية ضدية حادة، وأنها ترتبط بشدة وبصرامة بمجموعة من المبادئ العقائدية، وترفض بنفس الشدة، وبنفس الصرامة مجموعة أخرى، وتعتبرها لاغية لا معنى لها، ولذلك فهي تدخل في دائرة الممنوع التفكير فيه، أو المستحيل التفكير فيه، ويحدد روكيش الدوغمائية في ثلاث نقاط، أولها أنها تشكيلة معرفية مغلقة من القناعات/ واللاقناعات الخاصة بالواقع”؛ والنقطة الثانية هي: أنها تتمحور حول لعبة مركزية من “الإيمانات اليقينية”، ذات الأهمية المطلقة؛ والنقطة الثالثة: أنها تولّد سلسلة من أشكال التسامح واللاتسامح تجاه الآخر.(4)
إننا، في ليبيا، نعاني مشكلة حقيقية ليست خافيةً على أحد، وحالة انقسام رهيب لم يسبق لليبيا أن شهدتها طيلة مراحلها التاريخية، ووصف المواطن البسيط للحالة الليبية الراهنة بأننا اصطدمنا بالحائط (البلاد داخله في حيط) لم يجانب الصواب. ولكن ما هو غائب عن وعينا، هو طبيعة وأسباب وصولنا إلى هذا الأفق المسدود. والذي أحد أهم أسبابه هو ما تعانيه كل أطراف الصراع تقريبًا من حالة الجمود الفكري والعقائدي، أو التصلب العقلي المزمن، وإن اختلفت درجات حدته من طرف لآخر.
لم تشهد ليبيا هذه الحالة من التشرذم والانقسام في السابق؛ لأنها ببساطة، كانت تنعم بالسكون في ظل هيمنة دوغما الحاكم المطلق. وكان القذافي يعلن بصراحة، ووضوح في خطبه، وكتابه الأخضر بأن نظامه العقائدي هو “الحل النهائي والحاسم”، ليس لمشاكل ليبيا فحسب، بل لكل المشكلات الإنسانية، وأن كل من يخالف أفكاره وآراءه هو خائن ورجعي، وجب إعدامه أو سجنه. وأن كل النظريات السابقة له هي محاولات فاشلة ولاغية، حسب وجهة نظره وكل من يعتنقها مصيره السجن أو الإعدام.
وبعد انتصار معارضي القذافي واستيلائهم على الحكم استخدموا نفس الأسلوب وتشبثوا، بنفس الشدة والصرامة، بنظام معتقداتي جديد ورفضوا، بنفس القوة، ونفس الديكتاتورية والتعصُّب، كل ما يمت للنظام القديم بأي صلة، وقرروا عزل، وإقصاء وقتل كل من لا يزال يدين بالولاء للنظام القديم ومنظومته الفكرية والعقائدية، بل وحتى الإدارية. لقد اعتنق “الفبرايريون” دوغما مضادة، وقدسوا تواريخ وأشخاصًا آخرين، وأصبحوا يعانون تصلب عقلي مضاد، وكل من يرفضهم هو بالضرورة خائن، أو كافر أو من بقايا النظام القديم وجب قتله، وإعلان الجهاد ضده. وبهذا لم تفرغ السجون من سجناء الرأي؛ بل تم استبدالهم وتغيّرت هويتهم وانتماءاتهم، وتحوَّل سجناء الأمس إلى سجاني اليوم، وضحايا الأمس إلى جلادي العهد الجديد.
ولم تقتصر أزمة العقلية الدوغمائية الليبية على ذلك، بل أصبحت تعصف بليبيا حالة من الانقسام المجتمعي الحاد والبلاد، أصبحت مهددة بالتقسيم والتفتيت. فالمنتصرون أنفسهم انقسموا إلى فرق وأحزاب دوغمائية متعصبة وسنعرض بعضًا من تلك الفرق، والفصائل السياسية والدينية، على سبيل المثال لا الحصر؛ ومن بين أولئك: من يدعون أنفسهم بـ”الفيدراليين”، في شرق البلاد وجنوبها، وهم استندوا على إطلاق دعواتهم على “مظلومية التهميش”، التي صاحبتها حملة إعلامية قوية من قبل وسائل إعلام محلية وأجنبية برؤية يقينية وتوكيدية حادة، تحوّل فيها كل من ينكر فكرة “التهميش” ومركزية “العاصمة” كمن ينكر”الهولوكوست”.
“الفيدرالية هي الحل الوحيد”؛ ذلك هو شعار هذا الفصيل السياسي. بحيث يتشبث فصيل الفيدراليين بفكرة أن النظام الفيدرالي هو الحل النهائي والحاسم لكل مشكلات ليبيا، وبأنه الحل السحري للخروج من المأزق السياسي والاقتصادي، وحتى الاجتماعي، الذي تعانيه ليبيا. وكل من يرفض تطبيق النظام الفيدرالي هو شخص مركزي “مقيت”– حسب تعبيرهم. وإذا كان الرافض للنظام الفيدرالي من قاطني الشرق، فإنه خائن لقبيلته وعشيرته ومتملق لسكان الغرب، حسب توصيفهم.
يذكرنا هذا بتعليق للمفكر الليبي صادق النيهوم، في إحدى مقالاته يقول فيها: “إنّ المجتمع الجاهل يعرف الصّواب عن كلّ شيء، ويملك حلولاً جاهزة لكل المشاكل، لكنّه لا يقيس معارفه، وحلوله طبقًا لمناهج المنطق، بل طبقًا لمنهج التّاريخ. إنّ ما حدث في الماضي هو الصّواب، وما يحدث في الحاضر هو الخطأ!، لذا فقد كانت حجّة أهل مكّة ضدّ الإسلام إنّهم لا يستطيعون قبول فكرة تدعوهم للكفّ عن عبادة آبائهم الأوّلين، فقيمة أصنامهم ليست مستمدّة من شكلها المنطقي. بل من امتدادها في الماضي إلى الوراء”.(5)
“الإسلام هو الحل”؛ وهذا شعار آخر أطلقه الإخوان المسلمون. وهم أيضًا، وبكل وضوح، يعلنون أن الخيار الوحيد والحل السحري والنهائي هو في تطبيق “الشريعة” وكل مخالف لهم هو كافر خارج عن الملة، إلا أن المعضلة لدى الإسلاميين أن كل فريق أو جماعة منهم تعتقد يقينًا بأنها وحدها الفرقة الناجية، والبقية في النار. إنهم منقسمون إلى شيع ومذاهب وفرق متباينة، وتختلف درجة الحدة الدوغمائية بين صفوفهم، كما أن استخدامهم للدين للوصول للسلطة قد زاد من حدة الانقسام، وأفقدت المجتمع أحد أهم دعائم وحدته وتناغمه، وإحدى الوسائل المهمة لرأب الصدع وتحقيق السلم المجتمعي. بحيث تحوّل الدين إلى طرف في النزاع السياسي والسباق نحو السلطة.
ومن يوصفون بالليبراليين، أو العلمانيين في ليبيا ليسوا أقل تعصبًا وتشبثًا بمعتقداتهم ومنظومتهم الدوغمائية، فكل من هو “إسلاموي” في نظرهم هو إرهابي وتكفيري متطرّف ويسعى لأفغــنة البلاد، وتقييد الحريات. وأن الخلاص الوحيد والنهائي هو القضاء عليهم، ومن ثم الذهاب إلى تطبيق ما بين أيديهم من أفكار ومعتقدات يصفونها بالمتنورة والوسطية. ولكنهم على الرغم من ذلك لم يستبعدوا خيار اللجوء للعنف بحجة محاربة الإرهاب والتطرُّف الديني. ولكن ماذا بشأن التطرُّف العلماني والتطرُّف والتعصُّب القبلي ألا يشكلون خطرًا مماثلاً على الأمة؟
أما معتنقو أفكار القذافي فما زال شخص القذافي بالنسبة لهم رمزًا مقدسًا، وما زالت أفكاره ونظريته هي السبيل الوحيدة لإنقاذ البلاد في نظرهم، وأن كل من عارض القذافي، وأيّد، أو اشترك في الحرب ضده هو خائن وعميل ويجب تصفيته وإقصاؤه من الوجود، وأن لا مستقبل لليبيا إلا بعودتهم للحكم وإعادة الأمور على ما كانت عليه قبل 17 فبراير 2011.
هذا علاوة على الفصائل، والجماعات الأخرى التي تتبنّى حلولاً نهائية أخرى، فهناك من يرى في عودة الدولة الليبية إلى المنظومة البدائية العشائرية والقبلية، وتسليم القيادة إلى شيوخ وزعماء القبائل هو الحل الأمثل، لذلك انخرطت القبائل والمدن في سباق تسلح واستعراض، وبالفعل أصبحت كثير من القبائل والمدن تفوق قوتها وآلتها الحربية ما تملكه الدولة من سلاح وعتاد. بل إن الدولة تستعين ببعض القبائل والمدن لتأديب وقمع قبائل ومدن متمردة أخرى. وهناك من لا يرى حلاً غير تسليم البلاد لقوات الأمم المتحدة والعيش تحت ظل القبعات الزرقاء.
سكت الجميع عن السؤال، وأوصدت كل أبواب الحوار؛ فكل طرف يتأبط الحل الجاهز والسحري لكل المشكلات، وتقوقع كل منهم داخل سجنه ومنظومته الدوغمائية، وأحكم إغلاق عقله على كل ما يخالف رأيه ومعتقداته. وعرضنا هذا ليس القصد من ورائه انتقاد أي طرف، وإنما هي محاولة لمواجهة حقيقتنا واكتشاف مدى تشوهات وعينا، والآلية المعيبة لاشتغال منظومتنا الفكرية التي يستحيل معها أن يجمعنا بالآخر، المختلف عنا، أي مساحة للحوار أو العيش المشترك.
التعصب لفكر أو جماعة أو قبيلة أو مدينة هو انسلاخ للجماعات البشرية عن أي مظهر من مظاهر التحضر والإنسانية وتحولها الى مجرد قطعان مؤدلجة مذهبياً أو دينياً أو قبلياً وكل قطيع أيديولوجي أو جهوي أو قبلي لا حول له ولا قوة إلا بمشيئة الزعيم أو الأمير. ولذلك كان سهلاً مثلاً ترويج أفكار الانفصال وتقسيم الوطن الى كانتونات أو أقاليم متناحرة لأن الشعب تحول بالفعل الى مجرد قطعان بشرية متنافرة لا يربط بينها إلا تنامي الحقد والكراهية والعدوان وتأهب السلاح لحسم الخلاف أو الاحتكام للمجتمع الدولي مرة أخرى، وهذا أمر كارثي، سببه عقليات متحجرة، ستهدم الوطن بعنادها وتعنتها وجهلها وأوهام كل فريق بأنه وحده من على حق وكل من يختلف معهم على باطل ووجب القضاء عليه وقتله.
* سبق نشر المقال ببوابة الوسط – 8 فبراير 2014
—————————————————————————————————–
1- محمد عثمان الخشت: الدوجماطيقية. وهم امتلاك الحقيقة المطلقة.
2- موسوعة أندريه لالاند الفلسفية، تعريب: خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت، باريس، المجلد الأول، الطبعة الثانية، 2001، ص 297 – 298.
3- هاشم صالح مقدمة ترجمة كتاب: قضايا في نقد العقل الديني لـ محمد أركون.
4- هاشم صالح، نفس المرجع السابق.
5- الصادق النيهوم: مقال، الضعيف يموت أو يربي شنبًا.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً