السياسة الأمريكية في ليبيا مرت بمراحل عديدة، منها تعاون وحماية في العهد الملكي، ثم نزاع مستمر في العهد الجمهوري، وبعد اندلاع ثورة السابع عشر من فبراير 2011 وجدت حكومة أوباما فرصة سانحة للتخلص من العدو اللدود القدافي، بعد سنة 2013م برز انشقاق حفتر والشرق الليبي عن غربه، فأخذت أمريكا خطوة إلى الخلف وتركت الأوروبيين وخاصة إيطاليا وفرنسا للتعامل مع المشهد الليبي، واللتان كانتا داعمتين لطرفي الخلاف: دعمت إيطاليا الغرب الليبي وفرنسا داعمة لحكومة الشرق وحفتر على وجه التحديد.
رغم ذلك، كان لأمريكا ثوابت في ليبيا تلتزم بها، أولها عدم انقسام البنك المركزي رسميا واستمرار الصديق الكبير محافظا له طوال العشرة سنوات الماضية، وكان طرفا متعاونا مع أمريكا والبنك الدولي الآن، والالتزام الثاني محاربة أمريكا للمجموعات الإرهابية في ليبيا كما في الدول الأخرى، وكانت معظم غاراتها على تلك المجموعات من قواعد الأفريكوم في أفريقيا، والنقطة الثالثة عدم إنقسام المؤسسة الوطنية للنفط وحتى بعد وجود مؤسسة موازية في الشرق لم تعترف بها، بل أن أمريكا استطاعت حجز الناقلة الكورية المهربة للنفط والتي كانت بحراسة مليشيا جظران، ولكنها تغاضت عن التهريب في النصف الأول لسنة 2024 ، ومنه تصدير شركة أركنو لمليون برميل من مناء الحريقة يوم 10 يوليو إلى الصين، لانه خاضع لاتفاق أطراف محلية في الحكومة.
بعد أكتوبر سنة 2019 أوكلت أمريكا حليفتها في حلف الناتو، تركيا بإدارة الملف الليبي الأمني فكان الدعم العسكري التركي للغرب الليبي، الذي هزم قوات الفاغنر حتى خط سرت الجفرة، وكانت أمريكا ملتزمة بثوابثها، إلا أن تعاظم الوجود الروسي في ليبيا وعدم رغبة الاثراك للدخول مع روسيا أو مصر في نزاعات أقليمية وجدت أمريكا أنها مهددة بتنامي التجهيز لقواعد عسكرية في طبرق والخادم وسرت والجفرة مما يجعل مصالحها في مرمى القوات الروسية، أي أن القواعد الأمريكية في جنوب أوروبا، مثل اليونان وقبرص وإيطاليا على بعد دقائق من القوات الروسية في ليبيا، إضافة إلى أن هذه القواعد ستكون حلقة إمداد إلى دول الساحل جنوب الصحراء، مثل النيجر وتشاد ومالي وبوركينافاسو، والسودان، وهي دول حدث فيها انقلابات عسكرية طردت منها القوات الفرنسية والأمريكية، كما أن التحكم في دولة شاسعة مثل ليبيا بمواردها النفطية العالية سيكون تحديا كبيرا للغرب، ولذا رات أمريكا أن الخطر الروسي داهم لها وللدول الغربية التابعة لها وأن عملا ما يجب القيام به، فليبيا ليست أكرانيا أو تايوان.
إن شعار الفاعلين الليبيين حاليا هو استثمار كل الظروف للبقاء على الساحة الليبية أطول مدة ممكنة، فحفتر لم يعد يثق بعقيلة صالح ولا بمجلس النواب، وأنشأ له منظومة أبناء تتحكم في مقاليد الأمور، من التدريب العسكري إلى شراء السلاح إلى تصدير النفط والخردة إلى إقامة المشاريع، بل أصبح يبتعد عن مصر قليلا ويرى أن وجود الروس ضمان لوجوده هو وأبناءه، كما أن الروس توقفو عن دعم أي مغامرة لحفتر من أجل غزو الغرب الليبي وإكتفو بتعزيز وجودهم في القواعد بالشرق والجنوب الليبي، أما عقيلة صالح ومن معه من القبليين فيتألمون كثيرا لدفعهم بعشرات الآلاف من شباب المنطقة الشرقية للموت في سبيل تكوين مجد لعائلة، وهو يعلم أنه سيقذف به في شارع الزيت في أول فرصة سانحة من أبناء المشير، إن لم يكن عرابا لاضفاء الشرعية لهم وتوفير المال من المصرف المركزي في طرابلس من خلال تضليل أعضاء مجلس النواب، وعقيلة يعلم كذلك أن مصر بضعفها لن تغني عنه شيئا إن جد الجد. ولذا وجد في إقتراح محافظ المركزي ضالته للحصول على دعم أمريكي ربما سيطيل وجوده على الشاشة الصغيرة قليلا. أما الغرب الليبي المتشظي والذي يركن إلى الشرعية الدولية وإلى ثقل المؤسسات التي ورثته مدينة طرابلس منذ عصور، باق على حالة من السيولة، تتصارع فيه قوى مختلفة معظمها قبلية وإقليمية بلا بديل للحكومة الحالية، إضافة إلى القول المكرر بأن الحكومة والرئاسي على إستعداد للتنازل عن الحكم، حالما وجد برلمان منتخب جديد تنتج عنه حكومة جديدة، وهو يتماشي مع المنظور الغربي إن لم يوجد حل أخر بديل مثل حكومة موحدة، هذه التفاصيل جميعها تضع المشروع الأمريكي لايجاد حكومة موحدة من أجل طرد الروس في غاية الصعوبة.
وضعت أمريكا سياسة لها في ليبيا للتخلص من التواجد الروسي، بعيدا عن الدخول في حرب مباشرة على الساحة الليبية، وفي سبيل ذلك إختارت النهج الأقل ضررا وهو الاستفادة من التناقضات المحلية: كما نعلم أن المصرف المركزي لم يكن يوما تابعا لاي من الحكومات ولا لمجلس النواب، بل هو من الثوابت الأمريكية في ليبيا، ولذا استعملت أمريكا محافظ المركزي لتمرير سياستها القادمة (وذلك ليس بالضرورة مناقضا للمصالح الليبية)، جعلت المحافظ يجتمع برئيس مجلس النواب عقيلة صالح (رجل مصر في ليبيا)، للتعاون معه من أجل تشكيل حكومة موحدة والتي لطالما أمريكا نادت بها، وهو ما يضمن وجود قرار سيادي من الدولة الليبية للضغط على الروس بالخروج من ليبيا، علما بان وزير الخارجية الروسية لافروف يقول دائما أن التواجد الروسي في ليبيا هو بناء على موافقة من مجلس النواب وحكومة شرق ليبيا، واليوم أصبح أمرا واقعا تدعمه عائلة حفتر بقوة.
وحتى يكون هناك حكومة ليبية واحدة يتطلب الامر إغراء حفتر وعقيلة بالموافقة، ولا سبيل إلى ذلك سوى المال وافق مجلس النواب في فبراير الماضي على ميزانية قدرها 90 مليار دينار لكل ليبيا بتدليس عقيلة، ولكن هذه لا تفي بحاجات ونهم حكومة الشرق (عائلة حفتر)، فتم إضافة ميزانية خاصة لحكومة حماد قدرها 80 مليار دينار، مقابل توقف الحفاتر عن طبع العملة من فئة الخمسين دينار، وكان الوعد بشرط التمويل السخي من المركزي، هذه الميزانية يتطلب صرفها في الخمسة أشهر القادمة، وذلك لسداد ديون حفتر التي دفع منها 200 مليون للروس من العملة المزورة، وشراء المزيد من السلاح، وتلميع وجوده في الشرق الليبي بتنفيذ بعض المشاريع الصورية، مثل تعبيد الطرق وإعادة بعض تعمير بعض أحياء بنغازي ودرنة من الشركات المصرية التي ستساهم في إنقاذ تردي الجنيه المصري إلى الحضيض، ويتوقع بعض المراقبين أن مصر تأمل أن تتحصل على 20 مليار دينار من الميزانية كنصيب للشركات المصرية شرقا وغربا، ومعونات نفطية، ولكن ذلك سيعيقه تسويف المركزي في دفع الأقساط للحكومات خلال الخمسة اشهر القادمة.
اتفق عقيلة والكبير على زيادة الميزانية من 90 مليار إلى 178 مليار منها 80 مليار دينار لحكومة شرق ليبيا بموافقة مزورة لرئيس مجلس النواب (بلا نصاب قانوني)، وأعلن عقيلة فتح باب الترشح لرئاسة الوزراء، مما يعني أن أمريكا عازمة على تغيير حكومة الوحدة الوطنية بأخرى لها قبول في الشرق الليبي، بالتزامن مع ذلك اجتمع ضباط الأفريكوم (بإيعاز من السفيرة الأمريكية الجديدة) مع صدام حفتر، الذي يعتبر وريث أبيه، لأجل ضبط الأمور، وعلى ذلك فإن هناك أسئلة كثيرة تتبادر إلى الأذهان منها، أن أمريكا وجدت في طاقم حكومة غرب ليبيا ضالتها لسنوات سواء عند حرب داعش أو محاربة الإرهاب أو استقرار تدفق النفط والغاز إلى أوروبا، فهل ستجد بديل لها أم ستعمل على دمج الحكومتين لاجل أستمرار مصالحها (ويؤيد ذلك عزم أمريكا على فك الحفاتر من أحضان روسيا بوتن)، وهل أبناء حفتر سينخرطون في الحكومة الجديدة وهم تحت المضلة الروسية، أم سيواصلون الابتزاز للحصول على الأموال دون فك إرتباطهم بروسيا، الامر الاخر وهو أن ضريبة تحويل العملة والتي تبلغ 27% ستستمر ولن يتم إلغائها في المدى المنظور لأجل تسديد 80 مليار الميزانية المضافة أكثر الآراء واقعية أن معظم هذه الميزانية سيتم صرفها لسداد الديون وربما يكون للديون الداخلية للمصرف التجاري والوحدة والتجارة والتنمية نصيب وهي تتجاوز 84 مليار دينار، علما بأن الأخير يرجع تبعيته للامارات وتبلغ ديونه قرابة 7 مليار دولار.
في هذا الخضم وبعد فشل كل محاولات تقريب وجهات النظر حول القوانين الانتخابية وتحديد موعد للانتخابات، ستواجه الحكومة القادمة كذلك تحديات كثيرة بفعل التنافس الروسي المصري من جهة والامريكي الغربي من جهة أخرى، وربما لن تصل إلى توافق حولها، إن الدولة الليبية لقرابة عشر سنوات لم يكن لها ميزانية وكان صرفها على الحكوميتن بطريقة واحد على 12 من الميزانية السابقة، والتي تشمل مرتبات الموظفين في معظمها، واليوم يتم التوافق على ميزانية ضخمة فكيف سيتم صرفها في خمسة أشهر؟ وهل أن الميزانية لا تخص الحكومات الحالية، بل الحكومة الموحده القادمة؟ والتي قد لا ترى النور قبل نهاية سبتمبر القادم، وكما نعلم أمريكا مستمرة في تعاملها رسميا مع حكومة الغرب الليبي إلى اليوم فهل يمكن إيجاده حكومة أخرى تحظى بموافقة جميع الأطراف؟ مصر عقيلة وحفتر روسيا والدبيبة أمريكا؟.
أخيرا إن لم تستطيع أمريكا إيجاد حكومة واحدة وبقي الحفاتر مع الروس فسيتم الرجوع إلى تزوير العملة وتهريب النفط أولا ثم المطالبة بالتقسيم تبعا للخط الذي اتفق عليه الروس مع الأتراك أي خط سرت الجفرة أوباري، ولن يكون هناك إقليم اسمه فزان، وهذا يؤمن للروس البحر والبر إلى وسط وغرب أفريقيا حيث (مستعمرات) روسيا في أفريقيا، أما إن رفض الشرق الليبي مسألة التقسيم أو انتقل حفتر الكبير إلى جوار ربه، فالأمر قد يتغير وستستمر حالة اللاحرب واللاسلم لسنوات قادمة كما في سوريا.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً