لا يخفى على أحد أن هناك تصحر في العمل السياسي في ليبيا دام سبعة عقود، منعت فيها الأحزاب عن أداء عملها وجُرِمت وألقي زعمائها في السجون، فلم تكن هناك فرصة لتكوين كوادر سياسية وقيادات حزبية، سوى بعض الفترات القصيرة سمحت بإطالة العمل الحزبي منها خلال الانتداب البريطاني في نهاية الأربعينات من القرن الماضي حين تشكلت العديد من الأحزاب في الغرب الليبي منها حزب العمال والحزب الجمهوري وحزب والتي انتهت سنة 1956 عندما قام الملك بإلغاء نشاط الأحزاب، أما الفترة الثانية فهي فترة نهاية الستينات حينما سمحت المملكة بالنشاط الحزبي وخاصة التيارات الإسلامية منها حزب التحرير وحزب الإخوان إضافة إلى القوميين العرب وانتهت بوصول العسكر إلى السلطة والتنكيل بقادة العمل الحزبي واعتباره خيانة تبعا للمقولة “من تحزب خان”،،، الفترة الأخيرة بعد ثورة 17 فبراير حين عاد المعارضين للنظام الجماهيري وبداية الترتيب لانتخابات مجلس النواب حيث وصل عدد الأحزاب المسجلة إلى 123 حزب معظمهم شخصيات فردية وصل بعضهم لكرسي البرلمان بعد الدخول في تحالفات ولا وجود لأغلبية لأي حزب، وكانت توافقات فبراير المشؤومة التي عطلت العمل الحزبي وأدخلت ليبيا في حرب أهلية دامت ستة سنوات.
على المستوى الدولي يمكن حصر أنواع العمل الحزبي المرافق للحكم إلى عدد قليل من الأنماط؛ في دول الاستبداد تكون الأحزاب ديكور للعسكر أو القوى الأمنية المسيرة للحكم، فالملك أو الأمير أو القائد هو الذي يقرر والأحزاب تتحصل على مساعدات لبقائها وموافقتها على إعادة انتخاب الحاكم، ومنها ما لا يحتوي على أحزاب أي كانت ويستبدل بأنماط ما قبل الدولة من أهل الحل والعقد أو مجلس الشورى. النمط الثاني تلك الدول العريقة في الديموقراطية والتي تضأل عندها الأيديولوجيا والجهوية وأصبح التنافس على البرامج، ومعظمها من الدول الأنجلو سكسونية: بريطانيا، كندا، استراليا، والهند وجنوب أفريقيا، هذه الدول يوجد بها عدد قليل من الأحزاب الرئيسية الفاعلة (اثنان أو ثلاثة)، وبذلك يمكن لها الحصول على أغلبية نسبية أو مطلقة لتنفيذ برامج الحكومة، وقد تكون برلمانية مثل بريطانيا وإسبانيا أو مختلطة مثل أمريكا.
النمط الثالث والمهم لثورات ما بعد 2011م هو وجود العديد من الأحزاب مع تبني النظام البرلماني، في هذا الوضع ليس هناك حزب يستطيع الحصول على أغلبية ولا يستطيع تكون حكومة بدون إتلاف، مع وجود رئيس يحد الدستور من عمله، تكون النتيجة عدم الحسم وعدم التوافق وانسداد العمل السياسي بسبب المناكفات بين البرلمانيين لهم حكومة ضعيفة، هذه المشكلة تمر بها لبنان، والعراق وتونس وليبيا وحتى إيطاليا وإسرائيل. والسبب في اختيار النظام البرلماني في دستور ثورات 2011م هو الرغبة في منع العودة إلى حكم الفرد وهو الرئيس إن أعطي صلاحيات واسعة. على المدي الطويل يمكن التحول من النظام البرلماني إلى نظام مختلط بعد تعديل الدستور كما في تركيا.
عند التحضير لانتخابات ديسمبر 2021 م فتح باب تسجيل الأحزاب في غرة يونيو الماضي، وقد جاوز عدد الأحزاب المسجلين 123 حزب حتى نهاية يونيو، وكانت شروط التسجيل بسيطة تتكون من مبلغ مالي وتوقيعات ل 54 عضو بدل 250 عضو سابقا، والسؤال ما الحافز الذي يجعل تسجيل هكذا عدد هائل من الأحزاب؟.
قبل الإجابة عن السؤال يمكن تحديد التوجهات الفكرية في ليبيا ثم قراءة توجهات قوائم الأحزاب التي تحصلت على الإذن بالعمل (الشهادة السلبية). على الساحة الليبية يمكن تقسيم التوجهات الفكرية والأيديولوجية إلى ستة أنواع، أنصار ثورة فبراير وهم منقسمون بين توجهات أقصى اليسار الرافض لأي تيار أخر واليمين المنادي بلم الشمل ونسيان الماضي وتقبل الأخر، ثم أنصار الجماهيرية وهم كذلك أطياف كثيرة من أقصى اليسار المنادي بعودة الجماهيرية واليميني المتقبل للانتخابات وعلى استعداد للمنافسة الشريفة، ثم تيار الإسلام السياسي وأهمهم الأكثر تنظيما حزب العدالة والبناء التابع للإخوان المسلمين، ثم المجموعة الفيدرالية ومعظمها مجموعات قبلية من الشرق الليبي تنادي بالنظام الفيدرالي، ثم المجموعات السلفية وأكثرها لا تؤمن بالانتخابات ولا بالتداول السلمي على السلطة وأخيرا المجموعات الأمازيغية وهي المنادية بالمواطنة و بالعدالة الاجتماعية والتنوع الثقافي.
إذا كان الأمر كذلك فكيف وصل العدد إلى 123 حزب؟ بالنظر إلى قائمة الأحزاب المصرح لها بالعمل نجد أن هناك سبعة أحزاب تنشد التغيير والديموقراطية وهي على خطى ثورة 17 فبراير ويمكن دمج أو جمع هؤلاء في تكتل حزبي واحد، وهناك سبعة أخرى توجهها جماهيري أو جمهوري رئاسي يستقي شرعيته من معارضة المجموعة الأولى ويعتبر نظام القائد العادل هو السبيل لحل مشاكل ليبيا، ومعظم قيادات هذه الأحزاب من رجالات العهد السابق، وهناك حزبين تابعين للإسلام السياسي وهو التنظيم المعروف بحزب الإخوان المشابه للتنظيمات بالمغرب وتركيا أو المجموعات التي تتبنى الإسلام الديموقراطي (وهو تطوير لمبادئ حزب الإخوان) كما في تونس.
أما العدد الأكبر والأضخم هم أحزاب الأفراد، وهي أحزاب لا أيديولوجيا ولا فكر ولا برامج. يدعم موقفها جزئيات الواقع الراهن مثل الخروج من الواقع الحالي بضم كل الفئات ولقد اتخذت خمسة أحزاب كلمة تيار وهو مصطلح للمنتمين فكريا وليس كحزب سياسي، ويرجع سبب ذلك بأنهم تيار فكري يريد إنقاذ الوطن وليس حزب يريد الوصول للسلطة تفاديا لمعتقد الجماهيرية أن “من تحزب خان” وبعد التسجيل سيتم استعمال التيار ويشتغل كحزب. المجموعة الأخرى لها الرغبة في المصالحة والخوف من الانقسام ويغلب على أسمائها: السيادة، الوحدة، الوطن للجميع، الوفاق، الاستقرار، أو توزيع الثروة بعدالة أو تمكين الشباب في السياسة، وكذلك العودة إلى دستور 51 أو بناء دولة فيدرالية، أو حتى النخبة أو نواصي الخير ولا ننسى الزيتونة والأوفياء، وهي أحزاب قزمية أوجدها قانون الأحزاب المعيب وتجربة الغنيمة السابقة.
أحزاب الأفراد ليس لها حظ في أي فوز أو مقاعد في البرلمان ما لم تلتئم إلى كثل أخرى وهو ما يسمى بإتلاف مجموعة أحزاب والذي يجب أن يكون في الحكومة وليس في الانتخابات كما حدث لحزب،،، دخول الأفراد على خط الأحزاب شجعه قانون الانتخابات الذي أجاز تجميع 52 توقيع لإنشاء حزب بدلا من 250 كما في القانون 29 لسنة 2012 وهو عدد قليل، الأمر الثاني هو المادة 20 من قانون الأحزاب التي تنص ” يرصد في الميزانية العامة للدولة المبلغ الإجمالي المخصص لدعم الأحزاب السياسية” و” تدعم الدولة الأحزاب السياسية المرخص لها بمزاولة النشاط السياسي طبقاً لأحكام هذا القانون، وفقاً للآتي:1. 50% من الدعم توزع على كافة الأحزاب السياسية المسجلة وفقاً لأحكام هذا القانون بالتساوي. 2. 50% الباقية توزع على الأحزاب السياسية المسجلة وفقاً لأحكام هذا القانون بحسب النسبة التي يحصل عليها الحزب من أصوات الناخبين بشرط ألا تقل عن 3%.
هذا التحفيز أصبح مغريا للكثير من الأحزاب وإن كان لا حظ لها بالفوز، وهي قيمة وضعها المشرع من أجل منع الأحزاب من تلقي المساعدات من قوى محلية أو إقليمية تفسد العمل السياسي ويكون الحزب أداة لسياسيات خارجية. وواقع الحال في الكثير من الديموقراطيات الناشئة ومنها ليبيا والعراق وتونس لم يغيب التمويل الإقليمي عن المشهد.
السبب الأخر والمهم هو طبيعة العناد والتشرذم للطبقة الليبية المثقفة بسبب الاختلافات الثقافية والعرقية والجهوية والتأثير الاجتماعي عليها مما يستلزم نشؤ أحزاب تمثل كل وجهة نظر داخل المجموعة الفكرية الواحدة، فالمنتمين لفبراير عشرات من أحزاب الأفراد وبالمثل للنظام السابق لا تربطهم إلا المبادئ العامة.
سبب ذلك هو دوام البداوة ورسوخ النهج القبلي، مما جعل كل منطقة وكل مدينة أو قرية إمارة بلا علم لها رموزها وحزبها ومجموعتها المسلحة وممثلوها في الحكومة وحتى مركز عزل أبنائها ومصنعها الخاص للأكسجين. ما زاد الأمر سؤا أن أحزاب الأفراد معظمهم ممن تولي منصب مؤقت في الحكومة خلال السنوات السابقة فأصبح سياسيا يقود العمل الحزبي.
تشجيع أحزاب القبائل والجهات والأفراد لا شك أن يبارك له من القوى الإقليمية وخاصة الإمارات وذلك من أجل تشظي العمل الحزبي إلى أحزاب قزمية منها لا حظ له بالفوز ومنها لا قدرة له على تكوين أغلبيه نسبية أو مطلقة عند الفوز مما يشكل صعوبة لتكوين حكومة من جهة، والوصول إلى الانسداد السياسي وعدم الفاعلية تحث قبة البرلمان كما حدث في تونس، وهو نهج لإفشال التجربة الديموقراطية القائمة على النظام البرلماني.
الفترة المتبقية حتى موعد الانتخابات أصبحت قصيرة، ولها معضلات تحتاج إلى حلول عاجلة مثل الاتفاق على القاعدة الدستورية سواء كانت جديدة أو تعديل الإعلان الدستوري، مع الأخذ باتفاق الغردقة، وتأكيد الدوائر الانتخابية، وهل الانتخاب للبرلمان والرئيس أو لكيلهما، وهل يكون مباشر أو عن طريق النواب للرئيس، ومن يكون القائد الأعلى للجيش، أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابة عاجلة.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً