التعليم الجامعي هو مصنع الرصيد المعرفي للدولة، وهو مصدر الحل لمختنقات المؤسسات، والوسيلة الناجحة لستييرها وانفراج معضلاتها وهو سُلم النهوض والرقي بأي أمة، حتى وصل نسبة الخريجين منهم 90% في بعض الدول، هذا من حيث المبدأ، ولكن الواقع في ليبيا غير ذلك. كان العصر الذهبي للتعليم الجامعي في ليبيا في الفترة من 1965 الى 1972م؛ في تلك الآونة كان هناك جامعتان هما جامعة بنغازي ويوجد بها كلية الطب، والحقوق والاقتصاد والتجارة والأداب، أما جامعة طرابلس فكانت تحتضن كلية العلوم والهندسة والزراعة والتربية. ولقد اتسمت هذه الفترة بعودة المبعوثين للدول الغربية المؤهلين جيدا، مع وجود أفضل أساتذة مصر في النظام التعليمي بليبيا. أساتذة تلك الفترة إلى جانب تخصصاتهم الدقيقة يحملون فكر متنور من تيارات عديدة سمحت لها الظروف أن تتنامى وتزدهر، هناك اليساريون؛ القوميون العرب والشيوعيون ومن المحافظين الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي، والجميع يتحدث عن التنمية عن التطور عن التغيير إلى الأفضل عن الخروج من ثالوث الجهل والفقر والمرض.
كانت أولى نكبات التعليم الجامعي إعلان الثورة الثقافية في 15 أبريل 1973 في مدينة زواره والتي قام القذافي من خلالها بنسف كل التيارات الفكرية وزج رجالاتها في السجون، وكان جلهم من النشطاء في الجامعات والصحافة، وتلا ذلك ما يسمى بتطهير الجامعات من المعارضين للحكم بإشعال ما يسمى بثورة الطلاب في 7 أبريل سنة 1976م للتخلص من أخر معاقل التنوير وهم الطلبة وأساتذة الجامعات، وبذلك استفرد القذافي بالتنظير والسلطة.
للأسف في هذه الفترة سعى النظام إلى تكوين أساتذة جامعات لهم الولاء الكلي للنظام فقام بترشيح مئات بل ألاف من الفاشلين دراسيا والمنتمين للجان الثورية للدراسة بالخارج، وكان جلهم إلى الدول الشرقية مثل بولندا والمجر ويوغسلافيا، وهذه الدول الشيوعية في حينها تعاني من تردي كبير في النظام التعليمي والأخلاقي، مما جعل الحصول على الشهائد يسيرا لمن كان يبحث عن الترخيص للعمل وليس العلم، نتج عن ذلك انخراط ألاف من الأساتذة في السلك التعليمي بالجامعات دون الالتزام بضوابط المهنة.
بعد ألغاء عقود الوافدين من المصريين والهنود والباكستانيين حدث نقص شديد في أعضاء هيئة التدريس، فكانت تشريعات وزير التعليم أنداك أحمد أبراهيم بترك الأساتذة لمكاتبهم والبحث أن أماكن أخرى للتعاون من أجل تعويض المرتب المتهالك جراء ارتفاع سعر الدولار إلى 3.5 دينار، أي الأستاذ الجامعي مرتبه لا يزيد عن مئة دولار خلال التسعينات من القرن الماضي. وجد هؤلاء فرصتهم للتخلص من التزاماتهم التعليمية، وعقب ذلك أوغلت الدولة في تخريب التعليم الجامعي بسن قوانين تحدد عدد الساعات ب 20 ساعة كحد أقصى أسبوعيا بدلا من تغيير المرتب الأساسي، مما أفسد أخلاقيات المهنة من ناحية وشجع من هب ودب على الدخول إلى منظومة التعليم الجامعي من أجل التكسب والمكانة العالية المفتعلة، علما بأن الكثير منهم لا يجيد غير العربية والأكثر من ذلك من ليس له أبجديات استعمال وسائط المعلوماتية بل أن الكثير منهم لا إيميل له للتواصل.
ما زاد الأمر سؤا هو في فترة التسعينات تعريب المناهج بلا كتب منهجية ولا خبرة سابقة ولا مكتبة، جعل أولئك الأساتذة حتى النبهاء منهم تضطرهم الظروف الى تلقين وريقات معدودة لكل مادة مع إنقاع الطالب عن الكتاب المرجعي. وبسبب فتح مئات الأقسام والكليات في جميع ربوع ليبيا حتى وصل عددها إلى 60 جامعة جلهم من المعاهد العليا التي تغير اسمها على جامعات، اصبح هناك نقص شديد في أعضاء هيئة التدريس، فكان حافزا لفتح أقسام للدراسات العليا على رأسهم الأكاديمية الليبية في جنزور وفي الكثير من الجامعات، حتى أصبح عدد أعضاء هيئة التدريس بكل الجامعات اليوم يقارب 30 ألف، وعدد المعيدين يناهز عشرة ألف حسب إحصائيات نقابة أعضاء هيئة التدريس الجامعي لسنة 2021. قد تكون البرامج جيدة لسد النقص في العلوم الإنسانية والإدارية ولكنها كانت طامة كبرى في مجال العلوم الطبيعية والهندسية والطبية حيث لا معامل ولا مكتبات ورقية أو إليكترونية.
هذه الصورة المأساوية أفقدت عضو هيئة التدريس رونقه وهيبته ومكانته وزادت سؤا لسببين أساسين أولاهما أن استثمار الدولة في هذا القطاع منذ 2005 م عند صدور قرار تعديل مرتبات أعضاء هيئة التدريس بزيادة عدد الساعات وقيمة الساعة لم يثمر في مشاركة الجامعة لحل مشاكل مؤسسات الدولة، بل وضع سنة سيئة للخروج من قانون 15 لسنة 1981 الخاص بالمرتبات عند قطاعات أخرى مثل النفط والشرطة والقضاء والديوان مما أوجد تشوه كبير في نظام المرتبات للدولة، والأمر الثاني أن التعريب ساهم كثيرا في تدني التعليم الجامعي بالتحول من الكتاب المنهجي والمرجعي إلى وريقات يتم نسخها وتلقينها ليعطى لها رقم مادة كمنهج دراسي اضافة إلى غياب وسائل الإيضاح والمعامل والمكتبة .
القشة التي قسمت ظهر البعير تصرف إدارة الجامعات في السنوات الخمس الماضية، حيث كان هناك إضراب في سنة 2017 ثم إضراب موظفو الجامعات ثم إضراب أعضاء هيئة التدريس في سنة 2019 ثم توقف الدراسة بسبب الحرب في سنة 2020م ، وتوقف الدراسة بسبب كرونا سنة خلال فصول الخريف والربيع للعام الجامعي 2020- 2021م واليوم إضراب أخر للمطالبة بتعديل الرواتب وتسديد ساعات العمل الإضافية، وجلهم لا وجود له في المكاتب خلال الدوام الرسمي.
هؤلاء أصبحوا عبئا ثقيلا على الدولة (مع احترام القلة من الذين قدموا ويقدمون الكثير من الجهد والوقت في سبيل هذا الوطن)، فهم خلال كل هذه الأزمات لم يقوموا بإنشاء منصات تدريس عن بعد ولا تجهيز مواد إليكترونية للدراسة ولا اقتراح حلول لأكثر من نصف مليون طالب ضاعت أوقاتهم بسبب النقابة السيئة السمعة وبعض أعضاء هيئة تدريس غير مسؤولين.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً