سبق وأن تناولت مسؤولية المثقف في بعض كتاباتي السابقة، لكن عندما كتبت في هذا الموضوع، لم اكن اقصد من مقالي إدانة الغرب تحديداً، وانما قصدت تمجيد المثقف الذي يتحمل مسؤوليته كإنسان ويقوم بدوره الإنساني بغض النظر عن انتمائه الإقليمي أو العرقي أو الديني، وان كان لنا أن ندين أمة ما، فإنما ندين عملها السيئ. لكن للأسف، الدافع للعمل السيئ على مستوى الشعوب، وحتى على المستوى الفردي، هو امتلاك القوة المادية وأدواتها، واحيانا بسبب ضغوط المصالح الوطنية. فالشخص العادي الذي يمتلك المال مثلا هو أقدر على عمل الخير بنفس قدرته على ارتكاب الكبائر والمحرمات والشر. وكذلك الشعوب والأمم، فالامم القوية تجيز لنفسها فعل كل ما يصب في مصالحها، دون النظر للتأثيرات السلبية لهذا الفعل على مصالح الدول الاخرى، وقد فسر وودرو ويلسون الرئيس الثامن والعشرين للولايات المتحدة مبدأ جيمس مونرو خامس رؤوساء الولايات المتحدة بان الاهتمام بمصالح الولايات المتحدة يعني أن سلامة الدول الأخرى مجرد أمور عارضة وليست أهدافاً فى حد ذاتها.
أمريكا، رغم حجم تدخلاتها المخل في كثير من الأحيان بالأمن العالمي، والذي يعود في أساسه إلى أنها دولة لا حدود لها، فحدود أمريكا ليست هي تلك الحدود الجغرافية التي تنحصر بين محيطين هما المحيط الأطلسي والمحيط الهادي، وبين دولة كندا ودولة المكسيك، بل تمتد الى اوكيناوا في اليابان، وتايوان جنوب الصين، ومدن كاملة تنتصب فيها قواعدها في أوروبا الغربية، ووسط آسيا، وجنوب القارة. لكن الى جانب تدخلاتها المخلة بالامن الاقليمي فإنها أكبر المساهمين في المساعدات الانسانية، والمفارقة أن العرب على رأس قائمة متلقّي المساعدات الإنسانية الأمريكية في العالم.
أعود لأقول إن القوة المادية هي التي تمنح الأمة او الفرد أو حكومة ما القدرة على الغطرسة، وتنمي فيها “شهوة” التدخل في خارج محيطها، والامثلة كثيرة في حياتنا. فقد وظف معمر القذافي إمكانيات ليبيا في الحرب على تشاد، وقد مارس الجنود الليبيين في تشاد أعمال تندى لها الجبين. وفي النهاية … خلافا لتدخلات امريكيا التي تصب دوما في مصلحتها … كان تدخل معمر القذافي وبالا علينا كليبيين، فقد ابتلعت الصحراء جثتت العديد من ابنائنا، ومنو الليبيين بهزيمة ساحقة، وخسرت ليبيا شريط حدودي تتجاوز مساحته 80 ألف متر مربع (طول الشريط 1000 كلم) بما يحتويه من ثروات معدنية لا تقدر بثمن من يورانيوم ومنجنيز. لم يتوقف تدخل معمر على مكان بعينه، فقد ساعد جل الحركات الانفصالية والحركات المناهضة لانظمة دولهم، حتى وصل عدد معسكرات تدريب هذه الحركات إلى أكثر من 60 معسكرا، اي ان ملايين من دولارات دخل النفط كان يجد طريقه الى دعم هذه الحركات التي اكسبت ليبيا اعداء يفوق عددهم الاصدقاء.
صدام، ايضا مثال جيد عن “شهوة” التدخل منحتها القدرة المادية للعراق، وايضا … خلافا لتدخلات الغرب “الامبريالي” الذي يصب دوما في مصلحة الامبريالية…. كان تدخله في الكويت كارتي على كلا البلدين، فقد احتل الكويت وشرد اهلها بحجة ان الكويت محافظة عراقية، وقد جر هذا العمل الويل للعراق، فمنح مبرر للامم المتحدة لتفوض امريكا بغزو العراق واخراج قواته من الكويت، وجند في تلك الحرب خمس دول عربية هي السعودية والكويت والامارات وسوريا ومصر. وكلفت هذه الحرب خزينة السعودية مبلغ تجاوز 16 مليار دولار، و خزينة الكويت اكتر من 16 مليار دولار، وخزينة الامارات ما يزيد عن 4 مليار دولار، الى جانب الخسائر الكبيرة في الارواح. وانتهت الحرب بضرب حصار على العراق ادى في نهاية الامر الى غزوها واحتلالها عام 2003، والذي نتج عنه الوضع الراهن الذي نراى عليه العراق الان.
وصدام …. كمعمر القذافي ….. ايضا قام بمساعدة بعض جبهات المعارضة العربية ضد انظمتها، وكان كل من صدام حسين ومعمر القذافي سندين للمعارضة الليبية والعراقية على حد السواء، وكانا الرجلان يتنافسان على زعامة المنطقة بزعزعة اركان الخصوم، فقد حارب جنود ليبيون الى جانب الجيش الايراني ضد جيش العراق، كما حارب جنود عراقيون ضد الجيش الليبي في تشاد. والان، ذهب الرجلين بعد ان بدرا بدور ثمار الحال الراهن الذي نعيشه الان.
علينا ان نفرق بين ممارسة الحكومات وشعوبها ومثقفيها، فالمثقف يستطيع بشكل ما ان يؤثر على سياسات بلده ويعمل على تصحيحها. جون بول سارتر مثلا كان مناهض للاستعمار بكلياته من منطلق كونه مناصرا لحرية الإنسان ومدافعا عن حقه في الحياة الكريمة، وقد ناصر الثورة الجزائرية ووقف معها بل وملهم ومنظر لها من خلال كتاباته، كمقاله الشهير “نحن جميعا قتله”، الذي كتبه عقب اعدام مناضل أوروبي كان يناصر الجزائريين ويقاتل في صفوف جبهة التحرير الوطني، اتهم بوضع قنبلة في محطة توليد الكهرباء فألقي عليه القبض وحكم عليه بالإعدام، وكتابه الشهير عن الثورة الكوبية ”عاصفة من السكر”، وكتابه عن ممارسة القمع في الجزائر ”عارنا في الجزائر”. وحتى تبريره لما يعرف بالارهاب، فقد دافع عن بعض العمليات الفلسطينية وقال عبارته المشهورة ” غاية الإرهاب هي القتل، إنه سلاح قاتل، لكن المستضعفين لا يمتلكون وسيلة أخرى”. ورغم انحراف سارتر عن بعض مبادئه بعد زيارته لدولة اسرائيل، الا ان عبارته القاسية التي قال فيها “أنا أكرهك يا محبوبتي فرنسا” تبين بلا شك ان الانحياز للانسان اكثر قدسية من الانحياز للدول والانظمة. وحتى في القضية الفلسطينية، فقد وجد نفسه بين ارادتين مختلفتين وبين حق الانسان في العيش في وطن يضمه، لذلك عبر عن هذا الموقف في حوار مع اكاديمي امريكي قال فيه بخصوص هذا الموضوع ” لطالما كنت أؤيد قيام دولة إسرائيلية فلسطينية، يعيش فيها الجميع سواسية، لكن المشكلة تتمثل في أنّ اليمين الديني قوي جداً. هم يريدون دولة يهودية، مهما تكن، مع هذا الهراء التاريخي الذي شوّش صياغة دستورهم، الأمر الذي جعل بلا شك كل المسلمين والمسيحيين، لا بل أيضاً كل اليهود العلمانيين ينفرون منهم. بالتالي، إذا نظرنا إلى الأمور بهذه الطريقة، فأنا أؤيد قيام دولتين مستقلتين متساويتين وحرتين»، وقد لفت في تلك المقابلة الى حقيقة الممارسات الاسرائلية فقال:” أن إسرائيل تستعبد الفلسطينيين، تسلبهم أرضهم وتمنعهم من أن يعيشوا أحراراً”.
للاسف المثقف في دولنا هو احد شخصين، اما معارض للنظام او موالي له، وبين هاتين الشخصيتين ينتهي دور المعارض الانسان، المعارض الذي يعارض من اجل القيم. فمثقف السلطة يكمن دوره في مدح النظم القائمة وتبرير مناهجها في ادارة شؤون الدول والشعوب. والمثقف المعارض يكمن دوره في إقتفاء أخطاء النظام وتهويلها للنيل من النظام الذي يعارضه، واخطاء مخالفيه فكريا لينال منهم ويشنع بهم. لذلك لم نجد في بلداننا مثقفين بحجم تشومسكي وسارتر والبير كامو الذي يكفي ان نشير الى قولته المشهورة، والتي عبر فيها عن سبب ضيقه من الحياة حين قال:”لا أبغض العالم الذى أعيش فيه ولكن أشعر بأننى متضامن مع الذين يتعذبون فيه… إن مهمتى ليست أن أغير العالم فأنا لم أعط من الفضائل ما يسمح لى ببلوغ هذه الغاية، ولكننى أحاول أن أدافع عن بعض القيم التى بدونها تصبح الحياة غير جديرة بأن نحياها ويصبح الإنسان غير جدير بالإحترام”.
انا على يقين بأن الثورات ستنتج شخصيات مثقفة ذات ميول انسانية ستحل محل مثقفي السلطة ومثقفي المعارضة، وقد بينت الثورة الليبية في اوجها ظهور حركات ثقافية واعية وواعدة في كل مدينة ليبية تقريبا، خلال الفترة العصيبة التي امتدت بين فبراير واكتوبر من العام 2011، حين تكونت مجالس بلدية تدير المدن المحررة، ونمى في هذه المدن المحررة ظاهرة ثقافية مميزة، ولكن هذه الظاهرة الرئعة تقلصت تدريجيا وحل محلها اعلام هزيل اضهر قدر عالي من الاستقطاب لاطراف الصراع الدائر، وانحاز للخصوم السياسين على حساب الوطن.
وفي دراسة للدكتور محمد الاصفر استاذ الاعلام عضو هيئة التدريس بجامعة الزيتونة – أستاذ متعاون بالجامعات الليبية نشر على موقع مركز الجزيرة للدراسات (2015)، في دراسته هذه يتبين حجم الاستقطاب السياسي من قبل الفرقاء السياسيين من خلال التغطية الاعلامية للقنوات التلفزيونية. وقد تضمنت استمارة التحليل التي اعدها الباحث على ست قضايا رئيسية هي: مجلس النواب وما يصدره من قرارات، المؤتمر الوطني وما يصدره من قرارات، العمليات العسكرية لما يُعرف بقوات جيش الكرامة، العمليات العسكرية لما يُعرف بقوات جيش فجر ليبيا، الدستور والهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، والحوار السياسي.
فمثلا كنموذج للانحياز والاستقطاب، تغطي قناة ليبيا اولا جل ما يصدر عن مجلس النواب وكل العمليات العسكرية للكرامة بينما تتهاون في نقل ما يصدر عن المؤتمر الوطني ولا تهتم بالحوار السياسي ولا باعمال هيئة صياغة الدستور والحوار، في حين تغطي قناة ليبيا الاحرار قرارت المؤتمر الوطني وعمليات فجر ليبيا لكنها تتهاون في كل ما يخص مجلس النواب وعملية الكرامة والحوار والدستور. لاحظ، ان هاتين القناتين كنمودج لم تهتما بالقضية الليبية والتي تخص كل الليبين وهما قضية الدستور وقضية الحوار السياسي، بل اهتمتا فقط بتغطية الجهة التي تتماهي معها فكريا وسياسيا.
ان لم يلتفت المواطن الليبي لحجم الاستقطاب الحاد الذي تمر به الحالة الليبية، وحجم الضرر المترتب عليه، فلن يكون بمأمن من عواقبه. واني ارجوا من مثقفينا ان يبتعدوا عن الجدل الذي نراه على هذه القنوات لصالح الوطن، واجزم وانا على تقة تامة ان تخلي ضيوف ورواد المحطات والقنوات الاذاعية عن الانحياز لاحد طرفي النزاع سيتمر ليس خلخلة قوة اعلام الفرقاء فقط، وانما اكثر من ذلك كسب الوطن.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً