يدرك الليبيون أن احتلال تنظيم “داعش” لمدينة سرت وعدد من المدن الليبية الأخرى كان بدعم مباشر بالسلاح والأموال من القوى الدولية تحت مظلة حلف الناتو منذ حرب 2011 عندما تم استخدام هؤلاء المتطرفين كمقاتلين للإطاحة بنظام القذافي، مثلما تم استخدامهم في أفغانستان، ويتم استخدامهم حالياً، ولنفس الأسباب، في سوريا، وفي اليمن والعــراق وبقية الدول العربية والاسلامية كأدوات للقتل ووقود للحرب الطائفية والمذهبية، فما يُعـرف بـ “الجهاديين” سواء كانوا من الجماعات الوهابية الجهادية أو من جماعة الإخوان المسلمين ليسوا إلا مجرد دمى مفخخة لتنفيذ الأجندات السياسية والطائفية وأدوات لجعل العالم الإسلامي والعربي مستنقع للقتل والدمار.
وبعد تمكين هؤلاء المتطرفين من السيطرة على السلطة السياسية متمثلة في المؤتمر الوطني العام، وأعلى سلطة دينية متمثلة بدار الإفتاء الليبية. وتولي أهم المناصب العسكرية والقيـادية في ليبيا بعد عـزل وتخــوين وتكـفير كل من لا ينتمي لهذه الفصائل المتطرفة؛ أصبحت ليبيا بأسرها وبلا استثناء بيئة حاضنة للعصابات الإرهابية متعـددة الجنسية، وأصبح الزي الأفغاني واللحية جواز العبور الآمن عبر بوابات الإستيقاف المليشياوية المتطرفة.
ولأسباب سياسية واقتصادية تتعلق بتمويل سيناريو “الحرب على الإرهاب” لعبت البروباغندا الدولية دوراً اساسياً في إيهام الرأي العـام بـ “القوة الخارقة” للتنظيم. تلك الدعاية التي كان لها دور مهم في انتصارات تنظيم داعش، وكانت من أهم أسباب فرض سيطرته على مناطق ومدن بأسرها ودون أي مقاومة تذكر. فقد نجح تنظيم داعش بالفـعــل في اثارة الرعب والفـزع ليــس في قلـوب الليبييـن وحدهم بل العـالم بأسره بواسطة تلك البروباغندا والحملات الإعلامية المحترفة ومشاهد القتل الوحشية، وقد استفاد التنظيم حتى من اعلام خصومه أنفسهم بالترويج والدعاية له.
لقد اعتمدت عصابات داعش الإرهابية مبدأ “قـصـف العـقـول” أولاً، وبث حالة الذعر والخوف عبر رسائلها المتلفزة التي يبثها اعلامنا بسذاجة، وكذلك صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، لتدخل داعش البيوت عبر الشاشات بالذبح وقطع الرؤوس قبل أن تطأ أقدامهم أي ارض جديدة. ولذلك استسلم الليبيون بعد قصف عقولهم، فتغــاضوا عن احتلال مدينة سرت، ودرنة، وصبراتة، وأخيراً بن جواد، والحقول النفطية…، وتقبّـل الليبيون بصدر رحب مذبحة زليـطن، أسوة بالمذابح التي سبقتها في شرق البلاد وجنوبها وغربها… وكذلك المجازر، والمذابح القادمـــة… فلا قرضابية قد تجمع الليبيين ولا ملاحم بطولية فالأمــر يختلف اليوم مع الاحتلال الداعشي. والأغلبية يفضلون الاستسلام وقطع رؤوسهم بهدوء على أن يظهروا اية مقاومة لهذه العصابات التي تحتل أرضهم وتسبي نساءهم. فلا طاقة لهم اليوم بالبغـدادي والبحريني بنعلي وجندهم.
فاليوم وكلما أحس الأمير الداعشي الوافـــد ببعض المـلل يرسل أحد أتباعه من المعتوهين بحزام ناسف ثم يتسمّر مع بقية أتباعه ممن يدعوهم بـ “الأنصار والمهاجرين”، صحبة بعض مما ملكت أيمانهم من السبايا أمام وسائل الاعلام وشاشات الكومبيوتر تملؤهم النشوة والفـــرح بردود الفـعــل وتحـول وسائل التواصل إلى حــائط مبكى تملــؤه صور أشلاء الضحايا ومنشورات الرثاء والتعـازي وعبارات الاستنكار والتنــديد، وعلى شاشات التلفزيون تتوالى الاخبار العاجــلة بإحصائيات مجــزرتهم البشرية، وتحليلات جيوش من المحللين وكل يوظف الحدث -طبعاً- حسب انتمائه. وعلى بعد بضعة كيلومترات من موقع جريمته، وبكل ثقة يعـلـن الأمير الداعشي من عاصمته سرت مسؤوليته عن المذبحة ويتوعد الليبيين بمذابح أخرى أشد عنفاً ودموية، مُطمئناً إلى أن هذا الشعب لا يستقيم أمره إلا بمزيد من قطع الأعناق ودحرجة روس أبنائهم أمام أعينهم.
وطبعاً، في اليوم التالي يهدأ كل شيء وتعود كليشيهات “وطني يؤلمني” والأقوال المأثورة وصور الموائد والحناء الى مجاريها الطبيعية على حائط الفيسبوك… وهكذا، “مذبحة، تعقبها ضجة اعلامية، ثم هدوء واستكانة”… ويترقب الجميع مكان وزمان الفاجعة القادمة!
وتزداد طمأنينة الليبيين بأن ثمة طائرات “مجهولة” أو طيران “فاعل خير” – كما يسميها الليبيون – تقوم بقصف مواقع التنظيم ومعسكراته في سرت وضواحيها وأن أشلاء “الداعشيين” تملأ الشوارع والمستشفيات… ليكتشفوا بعد حين أن تلك الطائرات “المجهولة” سواء التي تقصف التنظيم أو التي تقدم له المعـونة والسلاح ليست إلا جزء من بروباغندا التنظيم أو مجرد “اشاعة فيسبوكية”. بينما يدك بوابات مدينة ليبية أخرى!
إننا بإعلامنا ووسائل تواصلنا ومواقعنا الإخبارية نشكل أحد أهم أدوات هذا التنظيم الإرهابي الذي يستمد كل قوته من البروباغندا التي نساهم – بلا وعي منّا – في ترويجها وتسويقها محلياً ودولياً. فهذا التنظيم الإرهابي يعتمد في نجاح عملياته الإرهابية على مدى انتشارها عبر وسائل الاعلام العالمية والمحلية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي لتحقيق مزيد من الدعاية وبث حالة الهلع بين الناس، وكذلك من خلال انتصاراتهم الإعلامية ينجحون فعلاً في استقطاب مزيد من المجندين الجــدد من الأطفال والمراهقين والشباب البسطاء من الجنسين الذين تخدعهم شعاراتهم وتبهـرهم قوتهم “الأسطورية” واستعراضاتهم الهوليودية بأجسامهم ووجوههم المقنعة وأسلحتهم وسياراتهم الفارهة. وكثير من الشباب المراهقين والفتيات وقعــوا فريسة سهلة لبروباغندا التنظيم وقد رأينا اعترافات عدد ممن غرروا بهم والذين اكتشفوا بعد فوات الأوان بأن لا علاقة لهذه العصابات بالإسلام وانما هم مجرد حفنة من المجرمين والشواذ الهاربون من سجون بلدانهم.
وهذا إضافة إلى وسائل الاعلام الليبية والعربية المساندة والداعمة فعلاً لتنظيم داعش وعملياته الإرهابية ضد المدنيين والعسكريين. ومن بينها على سبيل المثال فضائية “النبأ” التابعة للجماعة الجهادية المقاتلة، وفضائية “التناصح” التابعة لدار الإفتاء وهذه الأخيرة هـدد أحد دعــاتها الليبيين وبشكل صـريح بأنه وفي حال قبول الليبيين لحكومة التوافق “الكافرة” – حسب وصفه – فإن هذا يعني مزيدا من العمليات الجهادية الانتحارية ودعـوة للجهــاديين من كل انحاء العالم لإعلان الجهاد في الليبية والتي تعد أولوية حسب قوله. وهذه القنوات لم تتردد في وصف العمليات الإرهابية بأنها عمليات نوعية وثورية، ووصف الارهابيون بأنهم ثوار وحماة للثورة ضد الجيش والشرطة الذين يصفونهم بالطواغيت، وأما المدنيين الرافضين للإرهاب فتصفهم هذه القنوات بـ “الصحوات” وعبّاد الطواغيت.
ومثل هذا الخطاب الإعلامي “الداعشي” لهذه الفضائيات ومواقعها التابعة لها والمحسوبة على قيادة المؤتمر الوطني العام، ودار الإفتاء وما تمارسه من “قصف العقول” عن طريق مثل هذه البروباغندا لا يختلف في أثره عن أي عمل إرهابي آخر. وليس هناك أي مبرر لاستمراره مهما كانت أسباب ترويجه سواء كانت أيديولوجية أو بسبب خلافات شخصية أو سياسية مع شخصيات عسكرية أو مدنية بعينها.
فالحرب على الإرهاب وكذلك عودة السلام والأمان والاستقرار يبدأ بصياغة خطاب اعلامي واعي ومغاير لما يتم تسويقه وترويجه عبر وسائل الاعلام… وانهاء حالة الفوضى والعبث الدموي تبدأ كذلك من أنهاء حالة الفوضى والعبث الإعلامي في المشهد الليبي… فالانتصارات التي تحققها عصابات داعش التي لا تملك أية مقومات حقيقية للبقاء والتمدد في ليبيا عدا ما تصنعه من أوهام واستعراضات هوليودية، وتعمَد الليبيين أنفسهم اما باستخدام هذا التنظيم ضد خصومهم وفقاً لمبدأ “التحالف مع الشيطان” انتقاماً ونكاية بالخصوم السياسيين أو تعمد تجاهله، وانهماكهم في حروب عبثية وجانبية خاسرة لا تعنيهم في شيء.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً