وسط انشغال مجلس الدولة بإعادة تنصيب رئيسه.. وأجواء اللقاء (الحميمي) في أنقرة بين رئيسي مجلسي النواب الليبي والتركي.. ورحيل المستشارة ستيفاني عن المشهد دون إلقاء (جوقتها) نظرة أخيرة.. وتلبد غيوم الصدام (القادم) حول طرابلس.. تدثر ليلاً صهريج من شركة البريقة صوب قرية بنت بية (الوادعة) من قبله (المنكوبة) من بعده.. لينفث نيرانه ويفتك بجمع من الأبرياء الجنوب (ثكالى) الدولة (الآثمة).. كل همهم روي آلياتهم الظمأى للوقود (المدعوم) من صبر الجنوب التعيس.. و(صريرات) حكومة الشمال.
ومن أمام مستشفى الحروق بطرابلس.. وخلال دقائق وجيزة استقطعها من الوقت (الإضافي) للزيارة.. لخص (تراشق) رئيس حكومة الوحدة الوطنية الكلام (المرتبك) مع بعض الأقارب المكلومين والمتضامنين مع ضحايا حادثة بنت بية المؤلمة.. المشهد الوطني الكئيب والوضع المعيشي البائس في الجنوب الليبي.. انفصام واضح بين رأس السلطة والشعب.. لغة استعلاء وإلقاء المعاذير تهرباً من المسئولية.. وتبعية مقيتة ومهينة لجنوب البلاد بعاصمة الدولة المركزية العتيدة.. حيث تصل أشلاء الضحايا الأبرياء (قبل أن تلفظ أنفاسها) إلى مشفى الحروق بعد قرابة (24 ساعة) من احتراقها.. على بعد نحو ألف كيلو متر من موقع صهريج الموت (المرسل) من ذات الألف كيلومتر.. ليتجلى مشهد صارخ التناقض.. كوميديا إدارة ثروات البلد.. ممزوجة بتراجيديا إدارة الإقليم (اليتيم) الذي تربطه بالمركز المأسي والفواجع والنقائض تحت راية الحكم المحلي.
مثل هذه الوقفات الطارئة بين (الحاكم) والمحكوم.. المشحونة بالعواطف والاحتجاج والشكاوى والتعبير عن المعاناة والألم.. تدار أولاً بروح الإنسانية.. ومن ثم بحنكة السياسي المتمكن.. وشجاعة القائد الصادق لمواجهتها ولقاء المتضررين من المأساة.. وتحمل المسئولية.. وقول الحقيقة.. كل ذلك للأسف كان غائبا عن ذلك المشهد السريالي.. حيث اختصر (الرئيس) القصة كلها في قيام أبناء الجنوب بتهريب الوقود (!!!!).. متناسياً ضريبة المركزية الباهضة التي يدفعها أبناء الجنوب وحدهم عبر شح الوقود المدعوم لنحو 10 سنوات.. وطريق الشويرف لحصد الأرواح والمركبات.. ورحلات شركة الخطوط الليبية (المزاجية) للجنوب.. وشبكات الجريمة المحلية والإقليمية للتهريب والتخريب.. ومتغافلاً في الوقت ذاته عما سببه الانقسام السياسي والعبث بالشرعية وإجهاض أول تجربة لاختيار الشعب لقيادته.. بقيام ذلكم الأبرياء المغدورين في بنت بية من المجازفة بأرواحهم الطاهرة للصعود لبارئها.. تاركة صهريج البريقة اللعين.. ومبررات حكومة الوحدة الوطنية الواهية.. والمسئولين أصحاب الدموع الصناعية.. وقنوات الإعلام الرديء البذيء.. وجموع أهل الجنوب (السلبية).. لحكم الأيام والأقدار حتى تلتقي جميع (الخصوم) عند مليك مقتدر.. وليس أمام بوابة مركز الحروق.
حادثة بنت بية المأسوية كشفت حقيقة أن فزان (سبية) للصراع بين قوى غرب ليبيا وشرقها.. وهي ليست أول المآسي ولا آخرها.. غير أن قساوة المشهد هذه المرة بالغة.. حيث الأبرياء يتدافعون تحت وطأة الحاجة لملاء لترات من الوقود (المستخلص من تحت أرجلهم).. للبقاء أحياء.. لكن صهريج شركة البريقة المشئوم نقل لهم الإبادة والإعاقة للناجين.. لينكأ جرحاً ينزف منذ عقود في جسد (فزان) سببه الإهمال والتبعية والسلبية وغياب المسئولية.. ويوجه صفعة لجل أبناء الجنوب المتبوأين للمسئولية في كل المستويات الإدارية وفي السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية و(الخفية).. حيث فشلت نخب الجنوب المتقلدة للمناصب سواء برغبتها أو برغبة من أوصلها للسلطة في إعلاء صوت أبناء الجنوب واستيفاء حقوقه الأساسية.. وصون بعض من كرامة أهله.. ليصبح فريسة للمتغولين من ساسة الإهمال والانتقام الجدد.
كارثة بنت بية مصاب جلل أذن رب المقادير بحدوثه.. وهي جريمة مكتملة الأركان.. وستبقى جرحاً غائراً لسنين طويلة في نفوس الطيبين والبسطاء من أهل الجنوب الأسير.. ولكن أنبه إلى أن طبيعة المأساة تستوجب التعاطي معها بعقلية مختلفة.. لأنها ستأخذ وقتاً طويل لتعافي أهل الذين قضوا نحبهم من الفاجعة والمصيبة.. وبالمثل فإن الرحلة العلاجية للناجين ستكون شاقة وممتدة زمنياً وتستوجب تكيف أسرهم مع أوضاع جديدة.. وتشير الواقعية والخبرة مع السلطات الليبية المتعددة وذات العلاقة (وزارات المالية والصحة والشئون الاجتماعية) أن (الفزعة) الحكومية قصيرة.. وربما قريباً سيجد ضحايا الحادثة المتعالجين وأهلهم أنهم قد دخلوا متاهة التفويضات المالية ومصاريف المرافقين والتهرب الحكومي من الالتزامات وخزعبلات ستلقي بهم على أرصفة الملحقيات والسفارات.
على أهل الجنوب المتضررين ونخبه الواعية أن يقشعوا عباءة السلبية والخوف وأن يتعاضدوا بالرأي والمشورة وعدم الركون للصراخ والعويل وردود الفعل المشحونة بالعواطف وغير العملية.. وأن يعتبر كل أبناء الجنوب القاطنين به وخارجه أن ما حدث كارثة وطنية تمسهم جميعاً وأن البعد الإنساني والإخلاقي والواجب الديني والموقف التاريخي يحتم إرشاد سكان الإقليم بوجه عام والمتضررين بوجه خاص إلى خطوات عملية انطلاقاً من مبدأ (ما ضاع حق وراءه مطالب) حتى لا يتلاش الزخم المعنوي والتعاطف الشعبي جراء فداحة الكارثة وتداعيات الأزمة وتذهب القضية إلى سجلات النسيان الوطنية.. ولعلها تكون نقطة تحول نحو تأسيس (فزان) جديدة.. تنفض غبار السلبية والتبعية.. وتتمثل بداية في الخطوات الإطارية التالية:
أولاً: تأسيس رابطة لأسر ضحايا بنت بية وفق الإجراءات القانونية السارية.
ثانياً: تتبنى الرابطة المسار القانوني بالتعاون مع خبراء قانونيين للتكييف القانوني للحادثة وإجراءات تحريك الدعاوى ضد الحكومة والمؤسسات الحكومية ذات العلاقة بقضايا الوقود وإهمالها للجنوب.
ثالثاً: تتبنى الرابطة المسار الإعلامي بتشكيل فريق إعلامي متخصص يتبنى الإمكانات والوسائط الفنية لمتابعة الأزمة محلياً وخارجياً خاصة أن العديد من المصابين قد أوفدوا للعلاج خارج ليبيا.
رابعاً: دعوة المجلس الأعلى لمكونات فزان الاجتماعية والمجلس الاجتماعي (أوباري) لتبني القضية والدفاع عنها في المحافل الاجتماعية والسياسية باعتبارها كشفت الخلل الأمني والإداري والاقتصادي والتنموي والاجتماعي الذي يُعانيه الجنوب.. ومطالبته والأجسام المجتمعية في الجنوب بتوسيع إطار الرابطة ومكوناتها وتعزيز ثقافة المطالبة بالحقوق وفق السياقات القانونية والإدارية الفاعلة.
خامساً: دعوة عمداء بلديات وادي الحياة أولاً للاجتماع وتشكيل فريق مساند للرابطة للقيام بمهامها وأهدافها وتحديد المواقف.. وبالمثل تشكيل لجنة للتواصل مع القطاعات والأجهزة ذات العلاقة والمتابعة لعمل الرابطة واللجان التابعة لها.
سادساً: تشكيل فريق عن طريق الرابطة لجمع التمويل والدعم المادي عبر صندوق مخصص لهذا الغرض وفق الوسائل المتعارف عليها.
سابعاً: العمل على إقامة نصب تذكاري بموقع الحادثة يذكر الجميع مسئولين ومحكومين في كامل التراب الليبي والأجيال القادمة من أبناء الجنوب بفداحة الكارثة ويكون شاهداً على هذه الفاجعة والحقبة المظلمة من تاريخنا.
أقول مرة أخرى.. “أن الموت حق.. والحق يستحق الموت من أجله”.. وأؤمن بالمنهجية.. فأي جهد إنساني ما لم تتم مأسسته وضبط علاقاته وديناميته وتطوير آلياته.. سيذهب سُدي وستتوالى الكوارث والفواجع دون أن يحاسب أحد.. وسيظل أهل الجنوب في تراجع واضمحلال ويطويهم النسيان كما طوى أمم غيرهم.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً