علم الله تعالى إخلاص امرأة عمران في ندائها لربها، فقد كانت عارفة بأسرار النداء والدعاء حين نادت ربها قائلة: ﴿ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ فهي طلبت من الرب التربية من البداية إلى النهاية، وكان في دعائها تضرع وانكسار لنفسها بين يدي ربها حيث كان نذرها بناء على أن يكون ذكراً يحصل منه من القوة والخدمة والقيام بذلك ما يحصل من أهل القوة، والأنثى بخلاف ذلك فجبر الله قلبها وتقبل الله نذرها، وصارت هذه الأنثى أكمل وأتم من كثير من الذكور، بل من أكثرهم، وحصل بها من المقاصد أعظم ما يحصل الذكر.
وكانت الإجابات الإلهية والنفحات الربانية والمواهب اللدنية التي تنتظر هذه الوليدة السعيدة، فأوحى الله عز وجل إلى نبي الله زكريا أن تقبلوا هذه الوليدة في رحاب البيت المقدس، خلاف غيرها من الإناث لخدمته وللتفرغ للعبادة في جنباته فيه طاهرة مصون مصطفاة على النساء وهذا من استجابة دعاء الله لامرأة عمران، بأن قبل ما تمنته من انقطاع وليدها لله ومرافقة الصالحين العابدين، ولم يقبل قبلها أنثى في هذا.
وجعل نشأتها خير نشأة في خلْقها وخُلُقها، فقد رزقها الله شكلاً جميلاً ومنظراً بهيجاً، وسلكها في سلك أهل السعادة من العباد الصالحين، وقرنها في طفولتها بالأولياء المتبتلين، فلم تعرف للشر طريقاً ولا للزيغ مدخلاً، ومن نشأ هذه النشأة الحسنة، وترعرع في هذا الجو الإيماني فأنى له إذا كبر أن ينحرف أو يزيغ.
وهذه الآية الكريمة قاعدة من قواعد التربية القرآنية في العناية بالأطفال من ولادتهم، وحمايتهم في نشأتهم وطفولتهم حتى يرسخ الإيمان في قلوبهم والعمل الصالح في جوارحهم، وأن يعيشوا في أتراب لهم صالحين وقرناء طاهرين، لينبتوا نباتاً حسناً وليسبق الخير إلى قلوبهم وعقولهم، حتى إذا ما جاء الشر قل أن يجد له مكاناً وموضعاً، وكم في هذه الآية الكريمة ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ﴾ (آل عمران: 37) من أثر ندي في القلب يوحي إلى قلب كل أب بمعاني العناية والرعاية، والحرص على الأبناء والذرية، ومن تمام العناية والنشأة الحسنة، والرعاية الصالحة أن كفلها زكريا وهو زوج خالتها على الأشهر، أو زوج أختها كما جاء في رواية، ففي حديث الإسراء والمعراج: “فإذا أنا بابن الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا”، ويطلق على القول الأول بتوسع.
وقد قال الإمام مالك وغيره: إن أمها أسلمتها إليهم بعد إرضاعها وبقائها في حجرها مدة يدفع مثلها إلى الغير، وإليه مال ابن كثير وجمهور المفسرين، أن أمها حين وضعتها لفتها في خروقها، ثم خرجت بها إلى المسجد فسلمتها إلى العبّاد المقيمين به، وكانت ابنة إمامهم وحَبْرهم و صاحب صلاتهم فتنازعوا فيما بينهم كل يريد أن يفوز بهذه الزلفى، ويحظى بهذه القربة إلى الله تعالى، فمِنَنُ عمران عليهم كمعلم وحبر كثيرة، وهي تمتُّ إلى أصل جليل وشجرة مباركة، فالعناية بها ليست كالعناية بغيرها، وجاء الوحي بقبولها في البيت المقدس، كل هذه الأمور وغيرها جعلتهم يتنافسون على الفوز بهذا الشرف العظيم، حتى اقترعوا بينهم كما قال الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ (آل عمران: 44).
وكان في قدر الله تعالى أن تكون في كفالة النبي زكريا، وخالتها زوجه، وقد جاء في الحديث الشريف: “الخالة بمنزلة الأم”، فعطف خالتها كبير ورعايتها لشؤونها في جانب المرأة تامة، أما كفالة زكريا فلتقتبس من عمله وصلاحه ولتطمئن، وتأمن على نفسها اطمئناناً تاماً، وفي هذا تعلم للآباء، ليختاروا لأبنائهم وبناتهم مربين ومعلمين ومعلمات من الصالحين والصالحات الأكفاء.
إن امرأة عمران بصلاحها وصلاح بيتها كانت تتمنى الولد الصالح، وليس أي ولد توكلت على ربها في ذلك وفي غيره من شؤونها.
إن هذه الآيات التي أخبرتنا عن امرأة عمران في رغبتها للولد تكشف لنا معلم من معالم طريق الصلحاء الأتقياء أنه يهيؤون أولادهم في مهمات الحياة الراقية وقممها العالية، ومقاصدها الغالية، وعلى رأسها خدمة الدين وتبليغ الدعوة في استمرارها وبقائها، ولا يهيؤونهم لما هو فائت عاجل، مما يستوي فيه الإنسان والعجماوات، ولما ولدت الأنثى لم تسخط ولم تتذمر بل رضيت وليس الرضى أن لا تحس بالبلاء، بل الرضى أن لا تعترض على الحكم والقضاء، والرضى سكون القلب إلى أحكامه، وموافقة القلب بما رضي الله تعالى به واختاره، وأفادتنا هذه الآيات البينات الحرص على اختيار الصالح الحسن من الأسماء، لما نتوسمه ونرجوه من البنات والأبناء، ليشيب الناشئ، وهو عارف بما أراده من أبواه.
وقد كان العرب يسمون أولادهم صخراً، وحرباً وأمثالها، ويسمون خدمهم بنافع وأفلح وبركة، ولما سئلوا عن ذلك قالوا: إن أولادنا لأعدائنا، وخدمنا لنا، ولهذا سميهم كل بما هو له.
ومدت أكفها إلى الله بصالح الدعاء لولدها وذريتها، ودعاء والوالدين له شأن عظيم عند الله، وكل هذه الدرجات مراقي عالية في التربية القرآنية.
وعلمتنا هذه التوجيهات الربانية أن نحرص بكل ما نستطيع على إنبات أبنائنا وبناتنا النبات الحسن، وأن يكون ذلك نصب أعيننا في غدوتنا ورواحنا وليلنا ونهارنا.
قال تعالى: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ ﴾ (آل عمران: 37)، والقبول هو: أخذ الشيء برضا والحسن شيء فوق الرضا، ستلمحه في تربية مريم العذراء وهو ليس قبولاً عادياً، ولكنه قبول حسن ولهذا قال تعالى: ﴿ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾ (آل عمران: 37).
فالإنبات الحسن يحمل ملحظين في حياة مريم عليها السلام:
- أولهما: أنها كانت تحت التربية الربانية منذ بدايتها الأولى في بطن أمها، كما يرعى الفلاح نباته بالعناية والنماء.
- ثانيهما: أن إجابة الله لامرأة عمران دليل على إخلاصها، لأن الله اختص مريم بالتربية التي هي من خصائص الربوبية، من الإنبات الحسن، وكفالة زكريا لها.
وفي قوله تعالى (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ)، جاءت الفاء هنا للتعقيب؛ لبيان سرعة استجابة المولى عز وجل لدعائها وسرعة تحقيقه لرجائها فهو من المؤمن قريب ولدعائه مجيب، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ (البقرة: 186)، وفي قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ (غافر: 60).
وفي قوله تعالى: (وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) مع قبولها عند الله قبولاً حسناً، فقد أكرمها الله وأنعم عليها بأن أنبتها نباتاً حسناً، قال ابن كثير: جعلها شكلاً مليحاً ومنظراً بهيجاً، وقد رباها الربّ عز وجل تربية حسنة في عبادة وطاعة لربها. والآية تفيد حسن نمائها وسلامتها واكتمال بنيتها اكتمالاً طبيعياً برعاية ربانية خالصة.
مراجــع البحث:
- د. علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام الحقيقة الكاملة، 2019م، ص (64 : 67).
- أحمد الشرقاوي، المرأة في القصص القرآني، دار السلام، القاهرة، ط1، 1421ه، 2001م، 2/608 – 610.
- عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تفسير السعدي تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الدمام: دار ابن الجوزي، ط4، 1435ه 1/218.
- فاروق حمادة، آباء وأبناء ملامح تربوية في القرآن الكريم، دار القلم، دمشق، ط1، 1997م، ص 241.
- ابن كثير، تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، دار الحديث، القاهرة، 1415ه، 1994م، 1/359.
- محمد إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، بيت الأفكار الدولية، الرياض، أحاديث الأنبياء 6/467؛ ك الصلح 5/ 304.
- محمد متولي الشعراوي، مريم والمسيح، جمع وإعداد: عبد القادر أحمد عطا، مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة، د.ت، ص 52.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً