هل اللغة مقدسة؟
بوضوح اكثر: هل توجد لغة مقدسة ولغة غير مقدسة؟
إذا طرح هذا السؤال على شخص يهودي لاجاب دون ان يعتريه شك بان اللغة العبرية لغة مقدسة، ولو طرح على المسلم لما تردد في ان ينعث اللغة العربية بالقدسية. لكن لو طرح هذا السؤال على عربي غير مسلم لكن احتمال النفي والتأكيد وارد، فإذا كان الشخص نصراني متعصب فلا تستبعد ان يكون نفيه قاطع لانه يتنكر لكل ما اتى به الاسلام، وان غلبت عليه النزعة القومية فلا شك انه لن يتردد في خلع ثوب القدسية على اللغة العربية التي يحبها ويحب قومها.
ماذا يحدث لو حاولنا ان نبحث عن دلائل القدسية في اللغة حتى نخلص الى جواب قد نتفق عليه؟
لنبداء اولا من تعريف اللغة نفسها، والحقيقة هناك فرق في استخدام مصطلح اللغة ومصطلح اللسان، اذ ان كل منهما قد يحيل الى معني مختلف بعض الشيء.
ورد في لسان العرب اللغو واللغا بمعنى السقط اي الشيء الذي لا يعتد به ولا قيمة له، وكذلك ما كان من الكلام غير معقود عليه. ومن مشتقاتها ملغي ومزال. وقد ورد قوله عز وجل: لا يُؤاخِذُكم اللهُ باللغوِ في أَيمانكم؛ وفسر اللغوُ في الأَيمان بما لا يَعْقِدُ عليه القلب مثل قولك لا واللهِ اوبالله عليك كم الساعة الان، وقال الشافعي: اللغوُ في لسان العرب الكلام غير المعقود عليه. ومن معاني مشتقات اللغة الخطاء فيقال ولغا في القول بمعنى أَخطأَ وقال باطلاً. والمعنى الاصطلاحي للغة هي أَصوات يُعبِّر بها كل قوم عن أَغراضِهم، الا ان هذا المعنى لا يعفي المصطلح من باقي معانيه الواردة انفا.
في تعريف اللسانُ بضم النوان هو جارحة الكلام اي اداته، وقد يُكْنَى بها عن الكلمة. وبكسر النون يعني اللغة اي ان لسانِ القوم يعني لغة القوم، يقول عز وجل: وما أَرسلنا من رسول إِلا بلسانِ قومه؛ أَي بلغة قومه.
والقدسية هي الطهارة، والقُدُّوس بضم الدال، هو الطاهر المُنَزَّه عن العُيوب والنَّقائص، ومن معانيها ايضا المتعالي فالقُدْس: هو الموضع المرتفع الذي يصلح للزِّراعة. والتَقْدِيس: التَّطْهِير والتَّبْريك والقَدَس بفتح الدال السَّطْل بلغة أَهل الحجاز لأَنه يتطهر فيه. بيت المَقْدِس أَي البيت المُطَّهَّر أَي المكان الذي يُتطهَّر به من الذنوب. والقُدْسُ بمعنى البركة، يقول العرب لا قَدَّسه اللَّه أَي لا بارك عليه.
حسب علمي ان اول من جادل في قدسية اللغة، كان ابن حزم الظاهري رحمه الله حين تناول افضلية اللغة العربية، وفي ما اعتقد الناس فيه بان اللغة العربية هي افضل اللغات لان القران نزل بها وان القران كلام الله لذلك فهي لغة مقدسة. يقول ابن حزم ان هذا لا معنى له، لان كلام الله نزل بكل اللغات، فقد انزل صحف ابراهيم بالسريانية، وكلم موسى بالعبرية. وينفي ابن حزم وجود نص او اجماع على ان لغة اهل الجنة عربية، ويذكر في كتابه الاحكام في اصول الاحكام طرفة جميلة حيث يقول ان اليهود يقدسون اللغة العبرية لانهم يعتبرونها لغة الله ولغة الملائكة، وبالتالي هم لا يستعملونها ان ارادو الكذب او الحلف على الباطل لاعتقادهم ان الملائكة لا تفهم الا العبرية وبالتالي فلن تكتب عنهم الكذب او الباطل ان صدر بلغة غيرها.
المحدد لقدسية اللغة إذا عند عامة الناس الذين يؤمنون بقدسيتها هي علاقاتها بعقائدهم وبما يؤمنون به، فالعبري يؤمن بقدسية العبرية لانها لغة انبيائهم، وقد يؤمن النصراني بقدسية اللغة الارمية التي تحدث بها المسيح عليه السلام، ولا شك ان المسلمين يؤمنون بقدسية اللغة العربية باعتبارها لغة القران، ويظل السؤال: هل ما يذهب اليه هؤلاء جميعا يستند الى الحق ام انه يصدر عن هوى النفس؟
إذا اردنا ان نتجرد من هوانا ونقترب من ايماننا فسنقر بان العبرية هي افضل اللغات!….. طبعا هذا الاقرار “خط احمر” يستفز الكثيرين، لسبب لو فكر فيه الكثيرين لوجدوا بان لا علاقة له بالايمان بقدر ما له من علاقة بالعداء مع اليهود. نحن نكره اليهود وبالتالي فكل ما يمت لهم بصلة هو باطل حتى وان كان مقدس، هذه مشاعري – وليست رأي – يشاركني في هذه المشاعر امة تعدادها يفوق المليار. لكن، لو منحنى عقولنا ردهة من الزمن وفسحة للتفكير فسنكتشف ان القران الكريم اشار الى ان الله كلم موسى (وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا – النساء 164) (نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسي إني أنا الله رب العالمين …. الاية من 30 الى 35 من سورة القصص)، كما ان الله سبحانه وتعالي ناول موسى الثوراة (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ – الاعراف 145) وهي مكتوبة بلا شك باللغة العبرية، إذا اللغة العبرية افضل اللغات لان الله تكلم بها وكتب بها.
انا لست هنا لتنصيب اللغة العبرية كافضل لغة، فلا ادعي علم يؤهلني لذلك حتى استند عليه لاقرار امر كهذا، كما لا املك الهوى الذي يجعلني اميل لهذا الرأي …. لكنها استنتاجات بسيطة، من ضمن الاستنتاجات التي تعودنا على وضعها دون التدقيق في حقائق الامور.
لقد اوردت في بداية مقالي هذا تعريف لمعنى القدسية، ولكي يكون الشي مقدس لابد ان يكون كله طاهر منزه عن الدنس فهل نستطيع ان ننعث لغة ما بالطاهرة او المقدسة؟ الحقيقة من غير الممكن فعل ذلك، إذ ان ذلك يتجافى مع معنى اللغة وطبيعتها، لان اللغة كما جاء في شرحها المعجمي تقبل الخطاء والكذب والتدليس ، وهي مصطلحات لا يمكن ادماجها في ثوب الطهارة. وإذا قلنا ان لغة ما هي لغة مقدسة فإن كل ما يكتب بها مقدس، ويصبح اقرارنا بان اللغة العربية لغة مقدسة هو اقرار بان مقالي هذا مقال مقدس لانه كتب باللغة العربية!……
لا اجادل هنا في اهمية اللغة العربية وقيمتها الادبية، لكني اردت ان اسقط امرين من حساب اللغة العربية او غيرها، اولهما ما ذهبت اليه وهو ان لا قدسية للغة في ذاتها، بل توجد نصوص مقدسة في لغات عدة، فاللغة تكتسب قدسيتها من النص المقدس ولا يكتسب النص قدسيتة من اللغة، النص القراني باللغة الانجليزية لا يفقد قدسيته لانه كتب باللغة الانجليزية، يضل النص مقدس. والامر الثاني اهمية اللغة، ، فاللغة تكتسب اهميتها عن طريقين، الاول: تجدرها في ذاكرة المتحدثين بها، والامر الثاني: تداولها واستعمالها في مقاصد الدنيا وتطويعها لمستجدات الحضارة.
لقد كان للغة العربية اهمية عظيمة حين ازدهرت الحضارة الاسلامية، فاصبحت لغة العلوم والهندسة والطب والفلسفة، الا ان بريقها تلاشى مع انحطاط المسلمين، وتحولهم من خانة المبدعين الى خانة المستهلكين التبع، ولولا الاسلام الذي حفظها لاصبحت اللغة العربية لغة مهمولة كاللغة الامازيغية او السويحلية. ومع الانحطاط الذي نحن فيه انحط قدر العربية مقارنة بلغات العالم المبدع، فاصبحت الانجليزية لغة كل شيء حتى الطيور المدربة، انك لن تجد ببغاء يقول “اهلا” او “السلام عليكم”، لكن لا يدهشك ان الكثير من الببغاوات في حدائق ومنتزهات العالم يحيك ب”Hello” و “Welcome”.
وفي الماضي كان هناك اهمية للغة اللاتينية فتجدرت مفرداتها في لغات العالم الحديث، فلا يخلو كتاب في الطب او العلوم في كل لغات العالم الحديثة من مفردات لاثينية او يونانية قديمة، الا ان هذه اللغات التي تستخدم مصطلحات لاثينية او اغريقية لا تفقد قيمتها لانها استعانت بمصطلحات اجنبية، والسبب يعود ان هذه اللغات متجدرة في ذاكرة الامم التي تتحدث بها.
وختاما، فاللغة تراث انساني عظيم لا يستهان به، والتنوع الثقافي سنة من سنن الله على الارض، ومن مجانبة الحق ان نعتقد بتفوق لغة على اخرى او قدسية لغة دون سواها، او اهمية لغة دون سواها. ان الذي يجعل للغة اهمية هو ناطقيها، اهمية اللغة ليست صفة ذاتية من صفات اللغة بل صفة مكتسبة، فالانجليزية ليست مهمة في ذاتها ولكن في اتساغ استعمالها، والانجليز لم يفرضوا لغتهم على العالم، لكنهم بسبب تملكهم لمقدرات العلم والمعرفة اصبحت لغتهم لغة العالم، كما كانت العربية لغة العالم. ولو استطاع اي شعب ان يستنهظ هممهم فستتبواء لغاتهم الصدارة، ولو استطاع العرب ان يستنهظوا هممهم فستعود لغتهم الى الصدارة، التعويل على انها لغة القران لا يكفي لان يجعل لها موطن قدم في عالم يحترم المبدعين.
والله من وراء القصد
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً