من حِكم الله ما نعلم ومنها ما لا نعلم ولا شك أن ما يحدثُ كله خير وإن كان مرضاً أو وباء مشاعاً، فالأمراض من صنع البشر والعلاج من توفيق الله ورحمته ويؤكد ذلك قوله تعالى “وإذا مرضت فهو يشفين” أسند المرض للمريض وأسند الشفاء إلى الذات العلية.
بغض النظر عن أسباب الوباء الحالي “كوفيد 19” هل هو بسبب لختبارات بيولوجية خرجت عن سيطرة باحث أمريكي متعاون مع مركز أبحاث صيني في ووهان أو لنتقال الفيروس من الحيوانات إلى الإنسان فإن الأوبئة قديمة قدم وجود التجمعات السكانية.
من الناحية التاريخية لشتهر الطاعون الأنطوني الذي لنتشر في عام 165 ميلادية بروما وقال عنه المؤرخ الروماني كاسيوس ديو إن هذا الوباء تسبب في وفاة ما لا يقل عن ألفي شخص يوميا حينئذ، وذكرت بعض الدراسات الحديثة أن الطاعون الأنطوني لم يكن سوى مرض الجدري.
أما طاعون جستنيان فلقد انتشر في كافة أنحاء الإمبراطورية البيزنطية في آسيا وأفريقيا وأوروبا بين عامي 541 و 542م، وتشير الوثائق إلى أن هذا الوباء ظهر أولاً في مصر وانتقل إلى القسطنطينية التي تحصل على حاجاتها من الحبوب من مصر، وقد أسفر عن سقوط عدد كبير من الضحايا.
أكثر الأوبئة ضراوة ما عرف بالطاعون الأسود الذي شهدته أوروبا بين عامي 1348 و1349م، والذي أسفر عن مقتل نحو 20 مليون شخص، وكان يعتقد أن الفيران هم سبب الوفاة ولكن دراسة صدرت عام 2018 ذكرت أن البشر كانوا المسؤولين عن العدوى في ذلك الوقت وليس الفئران.
وبالمثل شهدت العاصمة البريطانية عامي 1665 و1666 ما عرف باسم طاعون لندن العظيم والذي وصلها قادما من هولندا ولقد تجاوز عدد ضحاياه الـ100 ألف شخص.
وفي ليبيا وثقت مس توللي شقيقة القنصل الإنجليزي في طرابلس في كتابها (عشر سنوات في بلاط طرابلس) عن الوباء المجهول الذي ضرب البلاد عام 1785 وقضى على رُبع سكان طرابلس الذي بلغ في ذلك الوقت 14 ألف نسمة، حيث كانت الجثث ملقاة في الشوارع، كما تقول توللي في كتابها، إنه من كثرة الموتى لم تعد تقام صلاة الجنازة، ولم يتراجع ويختفي هذا الوباء إلا في صيف عام 1786م.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى سنة 1918م اجتاح العالم وباء سُمي بالأنفلونزا الإسبانية، وأودى بحياة ما يقارب من 40 مليون شخص، وفي ذلك الحين كانت الفيروسات حديثة الاكتشاف، فلم يشخص المرض جيداً، وتقول ويندي باركلاي من جامعة إمبريال كوليدج بلندن: “لم يدرك الأطباء حينها بالطبع أن الفيروسات هي التي تسبب هذه الأمراض”.
آخر الأوبئة الفيروسية الأكثر فتكا داء الإيدز الذي ظهر أول مرة في الكونغو عام 1976م ثم انتشر في مختلف أنحاء العالم، وقد بلغ عدد المصابين حوالي 36 مليونا.
وعلى نفس الوثيرة استمرت أنواع أخرى من الفيروسات مثل إنفلونزا الخنازير الذي اكتشفت في المكسيك في أبريل من عام 2009م ثم انتشر في العديد من الدول، وقد أعلنت منظمة الصحة العالمية في عام 2010 عن وفاة 18 ألف شخص جراء الوباء.
وفي ديسمبر 2013م ظهر وباء إيبولا في غينيا وانتشر في بعض دول غرب أفريقيا حيث أودى بحياة ستة ألاف شخص.
أما الوباء الحالي كوفيد 19 المعروف بكورونا (وكلمة كورونا لاتينية الأصل تعني التاج)، فلقد ظهرت أول حالة في وهان في ديسمبر 2019 ثم انتشر حول العالم ليصل إلى أكثر من 160 دولة في أقل من شهرين.
وهو فيروس ضعيف يصيب كبار السن ومن هم مصابون بأمراض مزمنة والأقل مناعة، ولكنه سريع الانتشار بسبب فترة الحضانة الطويلة (12 يوما) ونمط العولمة الحالي المعبر عنه بالتواجد السكاني الكبير في مرافق عامة وبالتنقل السريع للأشخاص بين عواصم العالم.
في الماضي كانت الأوبئة بكتيرية مثل مرض الجدري الذي تعرضت له ليبيا عدة مرات، أشدها كان في أعوام 1858 في العهد التركي وعقب الغزو الإيطالي سنة 1913 وبعد الحرب العالمية الأولى سنة 1922 وما نتج عنها من مجاعة، كما انتشر مرض التيفوئيد سنة 1942 الذي قضي على معظم الأطفال، وعاود الجدري سنة 1945م الذي جعل أوجه الكثير ممن تعرض له مبقعة بندب غائرة بعد الشفاء.
أما الىن فأصبحت الأوبئة البكتيرية من الماضي وأصبحت الأوبئة الفيروسية أكثر تحدياً للمنظومة الصحية بسبب تنوعها واحتمال تحورها إلى أنواع أخرى وعدم القدرة على إنتاج أمصال لها.
أما عجز دول العالم بقدها وقديدها للوقوف أمام هذا الوباء وتحوله إلى جائحة تنتشر في معظم دول العالم رغم التقدم العلمي الكبير، وأن معظم الوافيات سجلت عند الدول الغربية الأكثر تقدما، فيعزى إلى عدة أسباب؛ منها أن مرض كورونا كغيره من الأمراض الفيروسية يصيب الفئة الأقل مناعة جسمية وهم كبار السن، وهم الأكثر تواجداً في الدول الغربية المتقدمة بسبب ارتفاع متوسط العمر في هذه الدول، مما يجعل تلك الشعوب تحوي ملايين من كبار السن الذين يعيشون حتى التسعين من العمر بمسكنات لأمراض مزمنة مثل الأمراض القلبية والسرطانات وأمراض الكلى، أما نظرائهم في الدول المتخلفة فيقضون نحبهم قبل وصول الجوائح إليهم بسبب عدم توفر إلإمكانيات الصحية الملائمة.
السبب الثاني المهم ما ورد في تقرير دولي يؤسس لمؤشر الأمن الصحي العالمي والذي اعتمدته جامعة جونز هوبكينز الأمريكية بتاريخ يناير 2020م، وهذا المؤشر يتناول مدى قدرة المنظومة الصحية على اكتشاف المرض والحد من انتشاره والتعامل معه بالوقاية والعلاج، ويشمل المؤشر 195 دولة.
كشف التقرير أن متوسط مؤشر الخدمات الصحية العالمي 42.2%، وأن 116 دولة ممن لهم الدخل الأعلى والمتوسط لم تحقق أي منظومة صحية منها أكثر من 50%، في حين أن عشرة دول حازت على الترتيب الأعلى، منها الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 83.5% ثم المملكة المتحدة ثم هولندا فأستراليا وبعد ذلك كندا ثم تايلاند فالسويد، وفي دول العشرة الأولى لا توجد إيطاليا ولا فرنسا ولا إسبانيا، وهو ما يوضح حالة القصور بل الانهيار للمنظومة الصحية في تلك الدول عند حدوث الوباء الحالي.
أما دول شمال أفريقيا فكانت المغرب في المرتبة 68 ثم تونس في المرتبة 122 ثم ليبيا بنسبة 25.7% في المرتبة 168 وأخيرا الجزائر في المرتبة 173.
وهذا يظهر عدم جاهزية وتهالك وتدني المنظومة الصحية للدول الشمولية مثل ليبيا والجزائر والوضع الجيد للمنظومة الصحية المغربية رغم قلة الإمكانيات المادية.
وباء كورونا كغيره من أوبئة الفيروسات سيكمل دورته ذات الثلاثة مراحل وهي مرحلة الانتشار السريع ثم استقرار ثم الانحسار لينتهي كما انتهى غيره، وربما نحن الآن في مرحلة بداية الانحسار التي قد تستمر لعدة أسابيع.
عالميا قد يدخل اقتصاد الدول الكبرى في انكماش مؤقت، ولكن هبوط سعر النفط سيعوض الخسائر، أما على المستوى الإقليمي فإن حروب قادة حكم العسكر وحكومات الاستبداد أكثر خطورة وأكثر قتلاً وتنكيلاً من غول كورونا وكل جائحات الدنيا، فحروب داعش والكرامة بجنوب طرابلس والشبيحة بإدلب والإماراتيين بالحديدة وعدن لا دواء لها حصدت مئات الآلاف من الشباب، وشردت ملايين العائلات وهدمت البيوت على رؤوس ساكنيها وهو ما لم تقوم به كورونا والإيدز ولا الطاعون الأسود.
محليا احتمالات انتشار الوباء ضئيلة في دولة قليلة السكان لا يوجد بها نقل عام ولا مناسبات رياضية ولا أمسيات ليلية، والمصدر الأساسي من المعابر وأشدها خطرا ما قامت به السفارة الليبية في مصر بالتعاون مع الحكومة المصرية بتسفير أكثر من 3000 شخص عبر المعبر خلال الأيام الماضية، ويشكل ذلك جريمة في حق الليبيين بتواطؤ مصر مع قوات الكرامة بمعبر امساعد، والتي إن لم يتم التعامل معها بحزم من حكومة الوفاق فستكون ذات عواقب وخيمة فهي حرب جرثومية يقودها حفتر لنشر الوباء في الغرب الليبي بعد أن عجز على ترويضه بالرشاوي أو هزيمته بالسلاح والتهجير والتنكيل.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً