قالت سيدة عراقية، وهي تنظر إلى صورة فتاة تعمل في أحد مصانع الطابوق* العراقية، وقد ترقرقت عيناها بالدموع: “طفلة بعمر الورد، المفروض هي الآن في مدرستها التي بنتها الدولة، وصوّت على قرار بنائها البرلمانيون الفاسدون، بدلاً من أن يصوّتوا على قرارات لمنافعهم وامتيازاتهم”.
وأضافت: “هل يمكن أن تكون هذه ابنتي؟” تلك الكلمات كانت كافية للاستفزاز مثلما الصورة، فقد تبنت دموع المرأة الوجع الذي أظهرته الصورة التي تعمدت أن أريها إياها وأطلب رأيها فيها.
رجل في السبعين من عمره تأمل الصورة بعدما أخذها بكلتي يديه، وبعد تأمل بسيط قال: وما العجب فيها؟، حال أبناء العراق هكذا على مر العهود، “عشنا وشفنا”، وكنا نأمل أن تتحسن الأحوال، ولكن يبدو أنه مكتوب علينا أن لا تتحسن، وهذه الطفلة مسؤوليتها تقع على الجالسين على كراسي الحكم الآن، نعم .. إن الله سيحاسبهم على كل وجع يتعرّض له طفل عراقي أو إنسان عراقي، فهم يتحمّلون ما يصيبهم من أذى، ولكن يا أخي هل تعتقد أنهم يفهمون هذا؟. أنا لا أعتقد..، إنهم يفهمون الله على طريقتهم الخاصة، وليس كما يفهمه الناس البسطاء، هم يعتقدون أن مناصبهم لهم، وأن المسؤولية بالنسبة إليهم محدودة، وإن جاع إنسان أو تعرّى أو مرض لا علاقة لهم بذلك، صدقني إن الوجع الذي في وجه البنت هذه سيكون له تأثير سلبي على أهل المسؤولية، إن الله يمهل ولا يهمل.
لم يعلق الكاتب أحمد سعداوي إلا بقوله: “أعطني طابوقاً.. أعطيك حائطاً، أعطيك دخاناً وأطفالاً في لبوس مشقة”)!!، وكأنه يترك تفسير ما لم يقله للآخرين!!.
إذن .. هل يمكن لأحد أن يقرأ في تفاصيل ملامح هذه الطفلة العراقية؟، أن يتحرى جيدًا في دقائق ما تمخضت عنه خطوط وجه الطفلة من دلالات للألم والوجع ومحاولة التحمل وبذل القوة والجهد والصبر، هل يمكن لأي مسؤول عراقي أن ينظر إلى هذه الصورة، ويقول لنا ما تعني وأين تقع مسؤوليته منها، وهي بالتأكيد ليست واحدة، أي إنها ليست لطفلة واحدة، بل لمئات مثلها يعملن في معامل الطابوق البدائية جدًا.
هل يمكن للمسؤول أن يتهجى لنا حروف القسوة على وجه الطفلة، ويكشف لنا عن موقفه منها، بعد أن يغمض عينيه ويتحسس في ضميره مكانة أولاده ، ويعمل “فوتوشوب” لوجه ابنته ليضعه بدلاً من وجه هذه الطفلة، هل يمكن للمسؤول بعد أن يحدق في الصورة جيدًا أن يرفع عينيه إلى السماء ليخبرنا ما الذي يراه على وجه السماء، وهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى ليس غافلاً عما يفعل الإنسان، صحيح أن هناك كثيرين في أشكال مختلفة من العوز والفقر والحرمان، ولكن تلك علامة فارقة، وتلك صورة صرخة تعبّر عن وجع كثيرين غيرها.
فالنظر إلى الصورة.. متعب جدًا، متعب للعين والقلب، إلى حد أن كل منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان والطفولة لا يمكنها أن تنطق بكلمة واحدة ردًا على المظهر العام للصورة إن جرى التدقيق به، فهي وصمة خزي على جبين من يهمه الأمر.
الصورة.. ليست غامضة ولا يغطيها الضباب، بل واضحة جدًا، هي لطفلة عراقية بعمر الورود تعمل في معامل الطابوق، التي في حقيقتها هي بؤر للتلوث والأمراض، وإنها تحمل طابوقة لتضعها على جدار متراص من الطابوق، يتم ترتيبه بعيدًا عن معمل الطابوق، وبالتأكيد هي تحمل الطابوقة الساخنة من تلك المسافة، وربما أكثر من طابوقة، تتحامل في رفع الطابوقة التي تزن ربما أكثر من ربع وزنها، تتأوه وتلتهب في يديها حرقة، أو خوفاً.. ربما مع صراخ رب العمل أو المسؤول عنه، لكنها لا تجد بدًا من أن تفعل ذلك، على الرغم من أن قدرتها لا تتحمل، لأنها تعرف أن ثمة عائلة تريدها أن تعمل أو ربما تحتاج أجر عملها هذا.
يقول حيدر عباس الشمري: أريد أن أعرف من المسؤول، من أكبر رأس في الدولة العراقية إلى أبسط موظف يجلس في استعلامات أية دائرة حكومية، وإن كان لا حول له ولا قوة، أن ينظر إلى الصورة ويقف أمامها متأملاً كإنسان أولاً، ومن ثم ينظر إليها بمسؤولية، أي إنه مسؤول عنها، أي إن الله حمله هذه المسؤولية. الصورة تصرخ بأعلى صوتها وجعًا وغضبًا، أنا أتمنى أن يتم توزيعها على أعضاء مجلس النواب عساهم يشعرون بالخجل، وقد قرأت قبل يومين تقريرًا من السفارة الأميركية في بغداد يقول: إن إجمالي الثروة المالية للساسة العراقيين وقواهم النافذة يبلغ 700 مليار دولار.
في الأخير قلت لحيدر: ماذا لو قدر للمواطن العراقي البسيط أن يعلق على هذه الصورة؟، فقال إنه لم يجد إلا أن يحشد عددًا كبيرًا من الطابوق ليرمي به المسؤولين، ويضرب بها رأس كل عضو برلمان فاسد.. أو مسؤول حكومي أو ربما أي رجل دين لا يحترق قلبه على ما يشاهد، ولا يصرخ من منبره للدفاع عن تلك الطفلة وسواها ممن ابتلين بالفقر والعوز، والمسؤولين الذين يغضّون الطرف عن هذه الأوجاع.
*يرجع تاريخ الطابوق إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد في العراق حيث وجدت آثار للمباني المبنية بالطابوق في بابل وغيرها وذلك لقلة الحجر في العراق.
اترك تعليقاً