شهر رمضان شهر العبادة والعيش في رحاب القرآن، والإمتثال لأوامر المولى، والتخلق بالخلق الحسن الجلي في كتابه، فعند وصف الله للنبي لم يتحدث عن إعتكافه في المساجد أو ولم يثني عن قيامه في جوف الليل ولكن قال “إنك على خلق عظيم” وهي مسألة متعلقة بالتعامل مع البشر، ومن هذا الخلق الحسن التسامح وقبول الآخر والعذر له وتفهم شعوره، ومحاولة إيجاد قواسم مشتركة للعيش معا، بل أن الرأي المختلف فيه لا يلزم على غيره وهم ما عبر عنه الإمام الشافعي ” رأيي صَوابٌ يَحتَمِلُ الخَطأ، ورأيُ غَيري خَطأ يَحتَمِلُ الصَّوابَ” هذه القاعدة الفقهية ما أحوجنا أليها في مساجد ولقاءات إجتماعية كثيرة يدعي فيها البعض إمتلاك الحقيقة، وإختيار الله لمنهجه وبأنه من الفرقة المنصورة الناجية وغيره في ضلال، وهو لمنهج الإقصائي من تراث بعض المذاهب المتأخرة وليس له علاقة بالأسلام.
في شهر رمضان من كل عام تكتض المساجد بالمصلين (من عُباد رمضان) ولا ضير من ذلك فهو تدريب للنفس على مواصلة السبيل، وفي تجمعهم إبراز لقوة المسلمين وتراحمهم وتعاضدهم لمساعدة الفقير والمسكين وعابر السبيل وسداد دين الغارمين، وتفريج نوائب الدهر عن المكروبين، وهي مبادئ قرآنية عملية لها بالغ الأثر في المجتمع وفي نفوس المحتاجين، ولقد عبر عنها النبي حين قال: ((ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل))؛ رواه مسلم إلا أن هذه المبادئ السامية للشريعة السمحاء أصبحت ثانوية عند خطباء المنابر وبذلك أصبحت ثانوية عند مريدوا المساجد.
ما يسجل من نقاشات معادة كل عام ويثير الهرج والمرج في الكثير من الأحيان موضوعات ليست ذات بال في ميزان القرآن الكريم، ولكنها تعبر عن مدى إنسداد الأفق وعدم قبول الآخر بل والإحتقان المجتمعي في الكثير من الأحيان، من هذه الموضوعات إخراج زكاة عيد الفطر وهي سنة عند المالكية والأحناف وفرض عند الحنابلة، وهذا لا يثير جدل رغم أهميته، ولكن ما تصدح له المنابر والمواقع أن تعطى الزكاة عينية أم نقذية، ويعود السبب إلى تقدير حاجة المحتاج، وإتباع مقاصد الشريعة أو الإلتزام بالنص النبوي في غياب نص قرآني قاطع للشك، حتى أن بعض الفقهاء قالوا أنها منسوخة بفرض الزكاة على الأموال. أي كانت الشعيرة سنة أم فرض أم منسوخة وأي كان أدائها حبوب أو نقود، يجب أن لا تثير الفرقة والشقاق، فلا أحد يمتلك الحقيقة ولا أن يتعصب لرأيه، وإختلاف المسلمين رحمة.
الموضوع الآخر المثير للجدل ولعقود طويلة مسألة الإختلاف في شعائر أذاء الصلاة، في السابق يقف المصلون في صف الصلاة بمختلف مشاربهم فمنهم من يقبض ويرفع يدية ومنهم من يهتم بالفرجة بين قدمية ومن لا يقوم بذلك ومن يلبس القفطان الطويل أو اللباس الرسمي، وكذلك الملتحي والحليق، والأبيض والأسمر، يقفون للصلاة في خشوع دون عناء أو فرض لراي على آخر، اليوم تثار الإختلافات (الثانوية) في الكثير من المساجد بل أن الكثير من المساجد أصبحت لجماعات ومذاهب محددة يشد لها الرحال من منتميها، ويمارس العنف اللفضي كثرا على مخالفيها، ومن ذلك الإستشهاد بقول النبي عند بدء الصلاة ” من وصل صفا وصله الله ومن قطع صفا قطعه الله” والذي يعني تواصل الصف وليس الأقدام، فهو دعوة على المخالفين الذين لا يرون بتراص الأرجل بقطعهم من الله. ومثل هذه الدعوة وغيرها جعلت الكثير من العامة تنتمي إلى أكثر من مذهب، وهو ما يعرف بمذهب التلفيق الذي يستهجنه الكثير من الفقهاء مخافة إختيار الأسهل والضعيف من المذاهب المختلفة، وتابعوا هذا النمط أغلبهم من الشباب في مقتبل العمر ممن تأثر بالدروس الدينية عبر الفضائيات أو ذهب إلى العمرة وإنبهر بنوع معين الشعائر، أو واظب على الإستماع للإذاعات الموجهة.
يقابل ذلك من حافظ على نقاوة وأصول وشعائر المذهب وإحترم شعائر المذاهب الأخرى دون محاولة تغييرها أو إزدراء منتميها، ويستند هؤلاء إلى أن حركات وسكنات العبادة لا تتغير ولا تتبدل بالدعاية الإعلامية للدول، ولا تخضع للسياسة، وأن إتباع مذهب أهل المدينة لا أساس له، فالمدينة المنورة ومكة كانتا تحت مذاهب شتى منها المذهب المالكي وحتى الشيعي لعقود طويلة. في غياب أفق القبول بالأخر وهم جميعا موحدون ولهم دين وقبلة واحدة، يحتدم النقاش بين المجموعتين حتى ينقسم المصلين، وقد يتخذ بعضهم أمامين في مسجد واحد.
أخيرا سجال التكييف، وهو موضوع مستحدث لم يجرؤ أحد على وصفه بالبدعة، فالمساجد تؤهل لقبول المصليين بتوفير الجو المناسب للصلاة، ولكن وجود فئات عمرية مختلفة وأعني فئة الشباب وفئة الكهول، يتحول حر الصيف إلى قر الشتاء، وتنشب المنازعات الكثيرة بينهما دون تقدير فئة للأخرى، ولن أستطرد في سرد النزاع لأنه أقل من أن يذكر.
خلاصة القول إذا كان السجال في بيوت الله هكذا إستبداد ورفض الأخر فكيف يكون الإتفاق تحت سقف بيت العائلة أو تحث قبة البرلمان أو المؤتمر الوطني، وكيف تتفق الأمة على أهداف واحدة رغم إختلاف نحلهم وأعراقهم وألوانهم؟ إن إنعدام التسامح بين المسلمين ألغى مفهوم الحروب ضد الإسلام، فلقد إنتهى عهد الإستعمار الغربي للمسلمين وأوجد عصر إستعمار المسلمين للمسلمين، فالحروب والنزاعات جميعها بين فرق ومجموعات تدعي أنها مسلمة، وهو ما حدر منها الدكتور علي شريعتي في كتابه “الدين ضد الدين” منذ أكثر من أربعين عاما، وربما يعزو ذلك إلى التفاسير المختلفة للسنة ممن يسمون بالمشائخ، ومحاولة كل منهم إيجاد تابعين وطلاب علم ومريدين يدافعون عن أفكاره وليس شعائر الله، ظاهرة المشيخة إختراع أموي ليس له علاقة بالدين، فلم نقراء في ألأحاديث المروية عن النبي البالغة أربعة عشرة ألف قول الشيخ أبوبكر الصديق أو الشيخ على بن أبي طالب ولا الشيخ عمر بن الخطاب، ولكننا نسمع كثيرا عند المحدثين الشيخ العلامة، والقرآن يذكر الشيخ بمعنى الرجل المسن “وأبونا شيخا كبير” وفي أية “شيوخا” ولا تعني العلامة الفهامة كما تسعمل الآن، والله الهادي إلى طريق الصواب.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً