“إذا اعقت مجرى الدم في الشريان ستكون النتيجة إصابة الإنسان بالمرض، وإذا اعقت مجرى الماء في النهر فالنتيجة هي الفيضان، وإذا اعقت الطريق نحو المستقبل فالنتيجة هي الثورة” فيكتور هيجو
الثورة ليست فوق النقد، فهي كأي عمل بشري، تعتريها الأخطاء، ومتى كان في طليعتها مفكرون ينظرون لها كان هذا من حسن الطالع، لأنهم قادرون برؤيتهم الثاقبة وقدراتهم الفكرية علي تقويم مسارها، وكشف مواطن تراجعها وتعثرها، حتي تصحح أخطاءها وتجدد انطلاقتها في طريقها الطويل نحو أهدافها.
أما ما يصاحبها من تدمير وتنكيل وقمع وظلم فهذا شأن كل التحولات الحادة والشاملة في التاريخ، فباستثناء بعض الثورات البيضاء التي انتهجت سبيل اللاعنف، وقعت في أغلب الثورات جرائم وفظائع وانتهاكات مروعة، فالثورة شر لابد منه، ولا تلجأ لها الشعوب إلا بعد فقدان كل الآمال وانسداد كل سبل الإصلاح، وصارت الخيار الوحيد والأخير للتغيير، ورغم تهيؤ كافة الأسباب والظروف لاندلاعها، إلا أن لحظة تفجرها لا يمكن التكهن بها، فهي لحظة مفارقة استثنائية كالزلزال.
غير أن النقد الحقيقي للثورات لا يمكن أن يتصف بالموضوعية إلا إذا وقع بعد مضي زمن علي وقوعها أي بعد نضجها وقطف ثمارها، ووضوح نجاحاتها وإخفاقاتها، تماما مثل تأريخها، فلا يمكن كتابة تاريخ ثورة وفصولها لم تكتمل، وأحداثها ما زالت تتفاعل، لذا لا يقدم أي مؤرخ محترف علي كتابة ومعالجة أي حدث تاريخي كبير بحجم ثورة قبل تجاوزها ومرور زمن ليس بالقصير علي وقائعها، لتكون النظرة لها كاملة وشمولية.
والنقد للثورة أو التأريخ لها لا يقطع مع ما قبلها، فهذه مصادرة وابتسار لا يستقيم مع النقد والتأريخ، لأن فصول التاريخ متعاقبة وغير منفصلة، فما يحدث في حقبة تاريخية هو امتداد ونتيجة لما قبلها، فقبل اندلاع الثورة هناك أسباب ومقدمات مهدت لها وحددت نتائجها وتحكمت في مآلاتها. وثمة مراحل ينتهجها الباحث في التاريخ كجمع المادة وتصنيفها وطرح شوائبها ثم اعتماد منهجه في البحث ووضع الفصول وخطط العمل من دون تحديد المسار أو النتائج، إذ سيفقد البحث مصداقيته إذا تحددت سلفا النتيجة المطلوبة وفقا للهوى أو خدمة لهدف سياسي. ولا يتوقف الباحث الحصيف أثناء بحثه عن طرح السؤال اللازم. لماذا حدث ما حدث؟ فلكل حدث سبب أو أسباب عدة، لا شيء يأتي هكذا اعتباطا أو بالصدفة. فالانفجار يقع بسبب الضغط، ويهطل المطر بتضافر عوامل عدة كانخفاض درجة الحرارة وتراكم طبقات السحب وتغير درجة الضغط، وتسوء طباع الناس بسبب استبداد الحكام، ويسود النفاق والتزلف إذا عم الخوف.وهكذا.
وبمقاربة الثورة الليبية سنقف علي عشرات المحاولات لكاتبة فصولها والتأريخ لها، رغم أن الوقت مازال مبكرا فهي ما تزال في طور التفاعل وعجزت حتي الآن عن استكمال أهدافها، وكل المحاولات يمكن اعتبارها تدوين صحفي لأحداثها لا يرقى لمرتبة الكتابة التاريخية الشاملة للسرد والتحليل والنقد، وهو تدوين سيكون مفيدا للمؤرخين فيما بعد للكتابة عن الثورة بتجرد وموضوعية، ومن دون اغفال أي تفصيل لأن كل الوقائع مدونة وموثقة.
هذه المنهجيات البحثية ربما لا تتوفر إلا للباحثين، الذين تحكمهم القواعد العلمية والشك الذي يستفز تفكيرهم، أما العوام فنقدهم عادة يصدر من منطلق عاطفي، ومن ثم يقعون في التحيز حسب الموقف من الثورة، إذا كان من أنصارها برأها من كل عيب ونفى عنها أي قصور، وإذا كان من أعدائها أو متضرر منها ألحق بها كل العيوب والمثالب. وهذا طبيعي لا ينبغي أن يثير أي استغراب، فالأنسان جبل على الميل مع الهوى والمصلحة الذاتية، ولكن ما يثير الاستغراب هو الهجوم على الثورة من خصومها من أنصار النظام السابق ، بإبراز ما رافقها وما نتج عنها من دمار واقتتال داخلي وتمزيق للنسيج الاجتماعي الليبي وانكشاف البلاد بسببها للتدخل الخارجي ونحو ذلك، وشطب ما جري خلال عقود الحكم الديكتاتوري، وكأن ما حدث في الثورة مقطوع عما سبقه من تدمير وتخريب لكل شيء في البلاد من تمزيق الدستور إلي تعليق الليبيين علي المشانق وزرع الفتن بينهم وتحويلهم إلي قطيع لا يملك من أمره شيئا، وليس انتهاء بالاستخفاف بهم وقذف نعل حذاء في وجوههم عبر شاشة التلفاز.
لا يمكن نكران المحنة التي تعصف بالوطن الآن، لا يمكن صم الأذان عن عويل الضحايا، ولكن في الوقت نفسه لا مندوحة عن طرح هذا السؤال. لماذا حدث ما حدث؟ وهكذا مع كل فاجعة ومع كل مصيبة وألم، مع كل صاروخ عشوائي يسقط على المدنيين، مع كل ليبي يكتسي باللون الأزرق من فداحة التعذيب، مع كل خبر عن مقبرة جماعية جديدة أو جثة متحللة مجهولة الهوية. سنطرح هذا السؤال. لماذا؟ وغيره من الأسئلة التي ستكشف لنا اجاباتها بعض الحقيقة وربما كلها.
السلاح الذي يتقاتل به الليبيون، وها قد مضت ثلاث سنوات ولم ينفد رغم الحروب ورغم التهريب. من جلبه إلي ليبيا؟ وهل كنا بحاجة لهذه الأطنان الهائلة من أدوات القتل؟ هل تجاور ليبيا بلادا عربية وإسلامية تشاطرها نفس القيم والهوية الحضارية والمصالح المشتركة والجوار التاريخي، أم هي محاطة بأعداء يتربصون بها ويتأمرون عليها، الأمر الذي يستدعي الاستعداد بتكديس السلاح وتحويل البلاد إلي ثكنة؟
تقول التقديرات أن القذافي أنفق علي شراء السلاح نحو 38 مليار دولار، تري لو صرفت علي بناء المدارس والمصحات والحدائق ودور السينما والمكتبات والبنية التحتية بشكل عام، كيف كان شكل ليبيا اليوم؟
هل كان للشعب الليبي مصلحة في أن يحكم اليسار نيكاراغوا أو يحكمها اليمين؟ ماذا جنى الليبيون من صرف أموالهم على الفصائل المتقاتلة في لبنان وعلى الجيش الجمهوري الايرلندي وعلى الانفصاليين في جنوب السوادن؟
ماهي حصيلة الشعب الليبي من هذه السياسات غير افقاره وتوجس أمن المطارات في دول العالم من إرهابي محتمل متى شاهد جواز سفر ليبي؟ وهل فعلا كانت هذه السياسات هي خيار الشعب الليبي وعليه أن يتحمل كلفتها، أم هي حماقات مريض بوهم القوة والمقدرة على أن يكون رقما في السياسة الدولية؟
من عطل بناء المؤسسات؟ من عطل الاندماج الوطني ووظف التمايزات القبلية والجهوية وأوقع الفتنة والبغضاء بين المكونات القبلية والمناطقية وحال دون تعزيز الهوية الوطنية، لكي يستمر نظامه وسلطته، ولم يسمح للنخب اقامة مؤسسات مجتمع مدني تجمع الناس حول مشتركات وطنية أسمي من الانتماءات القبلية والجهوية؟
من علم الليبيين الزحف علي البيوت والأراضي والاستيلاء عليها؟ من نشر هذه الثقافة الهمجية في ليبيا؟ من استولي على أرزاق الناس بشعارات البيت لساكنه والسيارة لمن يقودها والأرض ليست ملكا لأحد ودمر القطاع الخاص، فقتل في النفوس روح المبادرة والطموح والتنافس؟
من قتل 1269 سجينا في ساعات معدودة وساوم أهلهم بتعويض بخس مقابل الإقرار بوفاتهم لأسباب عضوية وعدم المطالبة برفاتهم؟ من استخف بالبلاد ومصالحها في مواقف كثيرة، فقرر ـ كمثال فقط ـ أن سويسرا كافرة فاجرة وعدو للإسلام علي المسلمين إعلان الجهاد ضدها، لأنها طبقت القانون علي أحد أولاده للحد من نزواته؟
من زج بنا في حرب غير مبررة مع تشاد ثم أنكر هذه الحرب وأنكر وجود أسرى حرب ليبيين فمنح تشاد فرصة التحلل من الاتفاقيات الدولية الخاصة بأسرى الحروب؟ من وضع بسياساته غير المعقولة البلاد والناس تحت طائلة الحظر الجوي والحصار الدولي؟
هذا غيض من فيض أسئلة لا تنتهي، سوف تسعفنا اجاباتها في كشف وتبيان وتفسير ما يجري اليوم في ليبيا، فهل من منصف مازال سيعتبر الثورة هي أم البلاء والخراب؟ من دون تجاوز حقيقة تاريخية وهي أن مراحل التحول ما بعد الثورات هي أصعب المراحل في حياة الشعوب لما يحدث فيها من تغيرات جذرية في بنية الدولة والمجتمع.
ولكن لنفترض أن عاصفة التغيير لم تضرب المنطقة العربية ولم تندلع الثورة في ليبيا، ومضي النصف الثاني من شهر فبراير 2011 هادئا مثل كل أيام ” الجماهيرية العظمى”. ما هو السيناريو المتوقع للأحداث في ليبيا خلال هذا العام والأعوام التالية؟ صحيح أن التاريخ لا يقبل مثل هذه الفرضيات، ولكن مع ذلك سنجتهد وننطلق من الفرضية المستحيلة، ونحن متأكدون بأن السيناريو الأقرب والذي سنؤجله للمقال المقبل سيتفق معه كل من خبر القذافي ونظامه وسياساته.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً