خلال العشر سنوات الماضية هرول الساسة الليبيون إلى مصر لأكثر من أربعين اجتماعاً جلها برعاية المخابرات المصرية، كما هرول سابقيهم باسم الأخت الكبرى، ومع ذلك لم تفضي تلك الاجتماعات إلى أي اتفاق سوى، المزيد من الانشقاق واتساع الهوة بين الفرقاء، من هذه اجتماعات المؤتمر الوطني مع مجلس النواب، ثم اجتماعات مجلس الدولة ثم اجتماعات توحيد الجيش، وأخيرها اجتماعات اللجنة الاقتصادية ولجنة القاعدة الدستورية قبل وبعد رمضان، ناهيك عن الاجتماعات بين السراج ثم الدبيبة وعقيلة وحفتر التي لم تتوقف، وكانت نتائج تلك الاجتماعات مزيداً من التدخل المصري السلبي الهدام ومزيد من الحروب، منها حرب فجر ليبيا 2014 وتنصيب ودعم حفتر بالسلاح والذخيرة وتنصيب عقيلة رئيسا غير منصب لليبيا، كما جندت كل طاقاتها للتدخل السيء مثل موافقة البرلمان المصري في 20 يوليو 2020 على تدخل الجيش المصري عسكريا في ليبيا.
لم يتوقف الدور المصري المشين عند هذا الحد بل استعمل عقيلة صالح لإفساد الانتخابات بإصدار قانون انتخابات معيب تحت رعاية مصرية، ثم عمل على إفساد المؤسسة القضائية بتغيير المجلس الأعلى للقضاء، وأخيرا تنصيب حكومة عميلة لمصر والرغبة الجامحة في تمريرها بأي ثمن من أجل التحكم في المشهد الليبي بعملائها.
هذا السلوك الدموي للحكومة المصرية له تاريخ يمتد لأكثر من ثلاثة ألاف سنة وهو ربما أطول كراهية على الأرض؛ ما بين السنوات 1186 و 1155 ق م اندلعت حرب بين الليبيين والملك رمسيس الثالث عندما قام الأخير بتنصيب قائد على القبائل الليبية في المنطقة الشرقية من ليبيا، ثم تجدد الصدام زمن رمسيس الحادي عشر بين السنوات 1107 إلى 1077 ق م. وفي القرن الحادي عشر تم تشجيع قبائل بني هلال وبني سليم على الهجرة لليبيا والتي كانت عقوبة من قبل الخليفة الفاطمي المستنصر بالله لأمير بني زيري المعز بن باديس بعد فك ارتباطه بالخلافة الفاطمية. وشجع المسؤولون الفاطميون قبائل بني هلال وبني سليم عبور النيل والهجرة الى ليبيا والدول المغاربية بمنحهم تسهيلات مزجيه.
من المغامرات الشهيرة إرسال صلاح الدين الأيوبي احد أتباعه يدعى قراقوش لغزو إفريقية، فتحالف قراقوش مع بني غانية ضد الموحدين وأغاروا على كامل البلاد من بنغازي إلى صفاقس غربا ينشرون الخراب والنهب والسلب، ولقد تم دحرهم، ولم يبقى من أثارهم سوى اسم منطقة غرب طرابلس تعرف بقرقارش.
في العهد القره مانلي انشق أحمد باشا عن أخيه يوسف في طرابلس، واتخذ من مصر ملجأ له، وبمساعدة الجنرال إيتون قائد القوات الأمريكية قام بتجميع جيش من القبائل البدوية في الإسكندرية واتجه غربا إلى درنه وأستطاع رفع العلم الأمريكي عليها وهي أو قطعة أرض تحتلها أمريكيا، لم يدوم الانتصار حتى ثم توقيع معاهدة مع يوسف باشا في 10 يونيو 1805م وبذلك انتهت الحرب.
في النصف الأول من القرن العشرين احتضنت مصر إدريس محمد السنوسي كحليف لها وللإنجليز والذي حارب معهم في الحرب الثانية مع وعود بتنصيبه على برقة، وتم ذلك بتأسيس إمارة برقة، وبعد الحرب العالمية الثانية عارضت مصر استقلال ليبيا وعبر مذوبها الذي عبر عن رغبة بلاده في الوصاية على المنطقة الشرقية من ليبيا، ولكن قرار الأمم المتحدة كان مخيبا لأمال الحكومة المصرية، بل أنها كانت تعارض دائما تخطيط الحدود بين ليبيا ومصر التي قام بها الإنجليز والطليان وتدعي أن واحة الجغبوب أراضي مصرية.
بعد وصول عبد الناصر إلى الحكم وفي فترة حربه مع فرنسا وبريطانيا بسبب تأميم قناة السويس صب عبد الناصر جام غضبه علي الملك ادريس السنوسي وادعى أن قاعدة العدم بطبرق قد استخدمت لقصف المواقع المصرية، وتواصلت المناكفات بين ليبيا ومصر لدرجة أن الاستخبارات المصرية أرسلت من يقوم بتفجير آبار نفط في المنطقة الشرقية، ولم يهدا بال عبد الناصر حتى حدث انقلاب 1969م والذي كان عبد الناصر أو المرحبين به.
مع وصول السادات إلى الحكم واصل القذافي توفير المعونات العسكرية وسداد ديون مصر مع الاتحاد السوفيتي، بل أن الدبابات التي عبرت خط بارليف معظمها كانت ليبية تم دعم الجيش المصري بها، ولكن العلاقات مع السادات سات بدعوى أنه انحرف عن الخط الناصري وقام بتصفية مراكز القوى، وكان نتيجة ذلك حرب الأيام الأربعة بين ليبيا ومصر، والتي اندلعت يوم 24 يوليو وانتهت يوم 27 يوليو 1977م، وقتل وأسر فيها الكثير من الليبيين.
بعد وصول السيسى للحكم كانت الثورة الليبية نصب أعينه لتدميرها بأي ثمن من أجل عدم إيجاد أي تجربة ديموقراطية ناجحة يشار لها في المنطقة، ولا صوت مُعارض للنظام الاستبدادي العسكري، فقام بتحويل ملف التعامل مع ليبيا للمخابرات المصرية والتعامل معه أمنيا بالتعاون مع السلطات الخليجية لدعم إفشال كل تجارب التغيير في الشرق الأوسط وشمال افريقيا وكانت ليبيا على سلم أولوياته؛ في فبراير 2014 دعمت مصر خطوات حفتر بل قدمت له كل الدعم الاستخباراتي لشيطنة المعارضين لحكم العسكر، وثم تصفيتهم تحت شعار الحرب على الإرهاب، وفي 16 فبراير 2015 شنت القوات الجوية المصرية هجوم على مدينة درنة وسرت وأودت بحياة أكثر من 64 مدنيا. كما تكرر الهجوم في 26 مايو سنة 2017م، وأخر تلك التدخلات دعم حفتر بالذخيرة والاستخبارات لدخول طرابلس في 4 أبريل 2019م حتى 12 ديسمبر من العام نفسه والتي هجرت أكثر من نصف مليون مواطن من منازلهم وعطلت التعليم مع قفل تصدير النفط، ولا ننسى الخطوط الحمراء التي رسمها السيسي على ليبيا من سرت الى الجفرة وصدقها الساسة الليبيون وكانت النكبة التي أطالت عمر النزاع إلى الآن، وأخيرا أفسدا كل الاجتماعات من شرم الشيخ إلى الغردقة وتونس وابوزنيقة وغدامس من اجل الرضوخ لمطالب مصر وتنصيب حكومة باشاغا في طرابلس.
ولكن لماذا هذه الكراهية الممتدة عبر القرون؟ الإجابة عن ذلك يكمن في بنية الشعب والحكومة المصرية، فلم يكتوي بنارها الليبيون فقط بل حاربت الحكومات المصرية جميع جيرانها، فعلى باشا بداء بحرب الشيخ عبد الوهاب في السعودية وحارب الأتراك في الشام وضم إليه السودان بالقوة، كما حارب عبد الناصر اليمن وانهزم جيشه وهاجم إعلاميا كل من المغرب وتونس في ستينيات القرن الماضي.
مصر كثيرة السكان ومن شعوب الأنهار المتخلفة، وهي شعوب اعتادت حياة سهولة العيش وانتفاء الطموح والقبول بالاستبداد والرضاء بالتمايز الطبقي الصارخ، فأكثر من 40 مليون مصري اليوم يعيشون على رغيف الخبز ورؤس من البصل وينامون على القش في صعيد مصر، ولا يفكرون في تغيير أحوالهم بالعمل الجاد، بالمقابل هناك طبقة قليلة مرفهة تلتهم ما توفر من مداخيل الدولة، ولدا لا تجد الحكومات المتعاقبة سبيلا سوى في الغزو الخارجي أو استعطاف الآخرين للحصول على مساعدات لتمويل علية القوم ويبقى العامة لا إنتاج لهم ولا مساعدة تصلهم.
ورد في الأخبار أن عمرو بن العاص رضي الله عنه بعث إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصف له مصر فقال في رسالته (أرضها ذهب ونساؤها لعب ورجالها من غلب وأهلها تجمعهم الطبلة وتفرقهم العصا)، وهذه المقولة (…يجمعهم الطبل و تفرقهم العصا) ذكرها المقريزي (ت845) في (اتعاض الحنفاء 267/3) وغيره قبل ذلك. وهو ما يعني ان الأرض المصرية زراعية جيدة ولكن رجالهم تبع لمن غلب وهم ظرفاء يستكينون للاستبداد.
من الذين وصفوا مصر جيدا في قصائده الشاعر أحمد بن دلة حين هاجر إلى مصر سنة 1923 هربا من القمع الإيطالي، وكان مراقبا جيدا للحياة المصرية وللاستقلال الصوري ولتحكم الإنجليز في المصرين وإذعانهم له، وأن مصر بقيت في تخلفها حتى زهد فيها الرجال ورخص ثمنها بل أنهم (أي الإنجليز) دبحوها بلا بسملة، حيت يقول:
عـــــــوره معــــوره والعيـار عيرها ومن عدلها قبضــوا أحكام ضررهـا
عـــــــــوره معــــــوره عـــــــــارت لا بــــردت لا سخنـــــت لا فــــارت
لا جنحــــت لا نازلـــــه لا طــــارت الفــوق مارقـــت والحـدر ما حدرها
ابرد سوقهـــــــا وادللــت لــــن بارت أو ولي وسلم في الثمـــن تاجرهــــــا
منيــــن لولبوهــــــا بالوالــــب دارت يا تعسها يا تعس من جــــــــــاورها
منين قودوهـــــا بالصريمــه ســارت بلا بسملة جزارهــــــــــا جزرهـــــا
الى أن قال: أن مصريين البالغ عددهم 14 مليون نسمة سنة 1925م وفي الواقع لا قيمة لهم في الحياة (أي عندي حسابهم صفر).
وبرقت ورعدت غممـــــت ما صبت فاضــت سحت ما نزلتـش مطرهـا
أربـــــع وعشــــره بالملايــــن عدت اللي طلع عنــــدي أحســاب صفرهــا
وحرض الشاعر (أحمد بن دله النالوتي) مصر والمصريين على الثورة في قصيدة واضحة النهج فقـــــــــال:
يا قاهره ما تقعـــــــــدي مقهــــــوره ولا تقعدي تحث القدم مجبـــــــوره
لا تُوهـــــــــــــــانـــــــــــــــــــــي لا ترخصــــي نفســك ولا تليانـــــــي
تكالــــك على الله الكريــم اطمانـي ما بين كاف ونـــــون يعمــــــل دوره
ويهبط أشغـــال العلـــــــو للتحتاني ويخضـــع جـــلال النسر للعصفوره
مصر اليوم ترزح تحت حكم شمولي كما كانت قبل 200 سنة لم يتغير حالها، ولكن العواصف التي تقتلعها أشد؛ فالديون الخارجية تزيد عن 145 مليار دولار، وخسارة قضية سد النهضة مما ينذر مصر بشح الماء، مع مشكلة زيادة سعر المحروقات بسبب حرب أوكرانيا، وعجز مصر عن توفير رغيف الخبز لمئة مليون نسمة والتي تستورد 80% من الدقيق من الخارج، إضافة إلى توقف الدعم الخليجي وتصالحهم من تركيا، ولا ننسى ازدياد الضغط الخارجي حول ملف حقوق الإنسان وحرية الصحافة، وما تنشره المنظمات الدولية من بناء 5 سجون جديدة تضاف للسجون القديمة التي يعتقل فيها أكثر من 80 ألف ناشط جلهم من القوى السياسية المعارضة.
لحل المعضلات السابقة يرى الكثير من السياسيين المصريين أن الحل هو الاستحواذ على المقدرات الليبية، ثأره بادعاء واحة الجغبوب والمنطقة المحادية أرض مصرية يجب الاستيلاء عليها كما روج لذلك حسنين هيكل ثم توفيق عكاشة وغيرهم، وتارة بتنصيب حكومات تابعة للحكومة المصرية من أجل ترسية كل مشاريع إعادة البناء للمنشأة التي دمرتها الكرامة بالذخيرة المصرية لتكون للشركات المصرية، وتارة بالسطو على المياه في الجنوب الليبي بعد التأكد من وجود أنهار متجددة في الجنوب الشرقي الليبي.
وفي كل المناورات السابقة لا يهم بقاء حفتر أو عقيلة أو حتى الدخول في مفاوضات مع المشرى الممثل للإخوان، أو حتى تغيير كل الحكومات الحالية وإيجاد حكومة جديدة قدر وجود أي منهم كعملاء ضامنين للمصالح المصرية في ليبيا، مثل ترسية مشروع سكك الحديد والطريق الساحلي بين تونس ومصر وتنفيذ مشاريع إعمار بنغازي والحصول على مشروع اتصالات الجيل الخامس، إضافة إلى تطوير حقول النفط وتمكين أكثر من مليون عامل مصري للعمل في ليبيا.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً