ثورة فبراير لا يستطيع أحداً من الليبيين تجاوزها، فمنهم من اعتبرها نقطة تحول وانعثاق من نير العبودية والظلم وحكم الاستبداد وطغيان الفرد إلى براح الحرية والعدل والمساواة، ومنهم من اعتبرها نكبة وفاجعة ألمت بالدولة الليبية، فقوضت أركانها وهدمت مؤسساتها وأحيت شرخا اجتماعيا غاب عن المشهد لزمن طويل.
بين هذا وذلك يتفق الجميع أن ليبيا بعد الثورة ليست كما كانت قبل 17 فبراير 2011م، وأن ما حدث من زلزال اجتماعي ومؤسساتي ينم عن تغيير اجتماعي عميق في بنية الدولة.
في ظروف التغييرات الاجتماعية العميقة لاشك أن الخسائر المادية وفي الأرواح كبيرة، والأرباح المعنوية جمة، أي التي تعني بالقيم والمبادئ الخالدة، مما يجعل تقييم هكذا انتفاضات على المدى القصير إجحاف في حقها؛ فعندما جاء النبئ محمد راءه المسلمون طريقاً للخلاص من الجهل والعبودية ووسيلة للرفع من قيمة الإنسان، وراءه معارضوه من قريش أن هذا الدين يفرق بين المرء وأهله وأنه يؤلب العبيد على السادة، ويساوي بين المعدومين وكبراء القوم، ويعارض الكثير من العادات المتوارثة مثل وأد البنات والرباء والنهب والغدر والخيانة، فكانت الحروب بين الفريقين والتي جاوزت ثلاثون غزوة على مدى ثلاثة عشرة سنة، ومئات الحروب بعد ذلك، استجلب المعارضون فيها الكفرة من الأعراب والروم واليهود لمعاونتهم على وأد دعوة الهداية والتغيير الجديدة.
التغيير الحالي ليس سمة ليبية أو إسلامية (والمسلمون أحق لهم بالتجديد) إنما هي سمة عالمية في موجتها الحالية التي طالت أكثر من إثنى عشرة دولة منها أربعة دول شرق أوسطية إضافة إلى ليبيا والسودان والجزائر، وجميع شعوب تلك الدول تسعى إلى بناء دول مؤسسات وتنبذ حكم العسكر وتطالب بالمشاركة في تقرير مصيرها والقضاء على الفساد والاستبداد.
اليوم وعلى مدى أربعة سنوات ماضية تكالبت على الثورة الليبية ومثيلاتها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قوى الشر المتعارضة أيديولوجيا مثل روسيا وأمريكا وفرنسا واتفاقها على تأييد الإمارات كمقاول لإفشال كل حركات التغيير بالمنطقة، ولقد استطاعت الأخيرة إرجاع حكم العسكر في مصر، وتفخيخ المجلس الانتقالي في السودان بغرس العسكر، وتحوير التغيير بالجزائر بالدفع إلى انتخاب الحرس القديم مقابل وعود لا يستطيع القيام بها، وتحول سوريا واليمن إلى مذابح جماعية لتخويف كل من يفكر في المساس بحكومات الأمراء والملوك.
رغم هذا الجبروت فالتغيير لن يتوقف، بل سيتعاظم وسيصل إلى جذور الشر لاقتلاعها، فمصر على بركان مشتعل تحت السطح قد يندلع في أي لحظة، والسعودية على مفترق الطرق بسبب زوال سبب تسمية دولة على عائلة وتجاوز الزمن لها، والإمارات نمر من ورق؛ اقتصاديا وفكريا، ففتح ميناء عدن أو موانئ ليبيا للتجارة الدولية تصبح ناطحات دبي أبراجاً للحمام.
رغم العوائق السابقة فإن فبراير لها مآثر كثيرة ضمن التغيير الاجتماعي للأمة منها، نهاية حكم الفرد والعائلة، ورأينا ذلك في رفض مشروع حفتر رغم الضخ الإعلامي وضخ الأموال وشراء الذمم ورغم الجسر الجوي والبري لأسلحة الدمار، لم يستطع حفتر جمع عشرات من المؤيدين سوى البطانة الاستخباراتية السيئة.
والأمر الثاني المنادات بدولة المؤسسات واستهجان الحكم العسكري مثل ما حدث من تعيين الحاكم العسكري في الشرق الليبي وتجاوزه الشعب دون المثول له.
وكذلك الإيمان بالمواطنة والتداول السلمي للسلطة كما حدث في معظم البلديات وعند تعيين الوزراء والقادة العسكريين، ناهيك عن شعور الفرد بالحرية والانعتاق، فالأفراد هم الذين يشاركون في الاحتفالات ولم يدعوهم أحد، وهم من يوزع الحلويات والمرطبات من مداخيلهم الخاصة، لم يعد حشد الجموع بالتهديد وبتوزيع الهدايا والمزايا لتأييد الطغمة الفاسدة والتطبيل لصاحب الفخامة ممكنا.
اختفاء تكميم الأفواه الممنهج ونسي الجميع زوار الليل والاختفاء القصري في الغرب الليبي حيت يترعرع في شرقه، كما انتهت صبغة البداوة المتأخرة والتغني بالنجع والتباهي بالقبلية المقيتة وقبائل الأشراف المزورة، ولم يعد للقومجية البغيضة مكان.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً