ضرورة الثورة
الوضع الليبي لا شك غير مطمن …. ومن الغباء ان نتجاهل الحالة الحرجة غير المسبوقة التي وصل اليها، ولا يجب ان نخدع انفسنا بالاماني الكاذبة، والتعلق بوهم امال لا تتحقق بالتمني، بل بالعمل الجاد وصدق النوايا، والارادة الحقيقية، وقبل ذلك الصدق والتفاني في مقارعة شهوة النفس واجبارها على قبول الصلح والايمان بالوفاق، وعدم الركون الى السلاح الذي كان ادات تفاقم الحال، ولم يكون ولن يكون اداة لحل الخلاف، هذه هي الاساليب المثلي لاعادة القطار الى مساره الصحيح.
عندما نعود الى تلك الايام من نهاية العام 2011 والحدث الجليل الذي انبلج فيها، لا نكاد نصدق انه حدث، فما حدث لم يكن في الافق المنظور، ولا في إطار وهم الفكر والنفس، كان فارقة في التاريخ وحدث باركته العناية الالهية، لا تستوعب وصفه الكلمات. توج ذلك العام بآمالي لا يتسع لها أفق الواقع، فإنتصار الثورة يعني ببساطة في تقدير السعداء بقيامها نهاية للاستبداد ، وبداية لدولة القانون والمؤسسات، تنتعش فيها البلاد التي عاشت متطفلة تتلصلص على زمن لا تنتمي اليه فكرا ولا تنتمي اليه ثقافة ولا حظ لها في تقدمه وإزدهاره، بلد يعيش على هامش التاريخ رغم ما حباه الله به من نعم وقدرات.
شهر يوليو 2012 توج عصرا جديد واعلن نهاية عصر مضي غير مأسوف عليه، انتخابات شهر يوليو 2012 نقطة اخرى فاصلة في ذاكرة تاريخ هذا البلد وقطيعة مع الماضي، لا تقل قدرا على تحرير طرابلس واعلان نهاية الثورة وبداية بناء الدولة، كانت بهجة المواطنين عرس لم يسبق للبلاد ان شهدته، توج بمراسم التسليم والاستلام بين من قاد الثورة وقاد البلاد في تلك الفترة الحرجة وبين المجلس المنتخب، عرس غير مسبوق تداعى للاحتفال به جل الليبين، وانتقلت فيه السلطة بسلاسة من المجلس الانتقالي الذي قاد ثورة التحرير بإقدام عارية تسير على أرض حصاها من جمر إلي مؤتمر كان أعضائه إفراز إختيار غير موفق في لحظة نشوة من سكرة الفرح. وثم كذلك التسليم من حكومة ضعيفة امام تحديات اكبر من قدراتها الي حكومة ترضية من اجل دوام بقائها.
فشل المؤتمر وفشلت الحكومتين قي السيطرة على مجريات الاحداث ودفعت بالبلاد الى هاوية التشردم والتشطر، وكل يضع اللوم على غيره، فخرجت البيانات من المؤتمر للتنديد باداء الحكومة وكأن الحكومة هبطت عليه من علو، وخرجت الحكومة بمؤتمراتها الصحفية لإدانة المؤتمر وتحميله مسؤلية فشل الحكومة. تزين الجميع بثوب الثورة، ولم يقبل احد منهم ان يُلبس توب الفشل الذي سبب فيه.
لاشك ان المؤتمر والحكومة قد تعرضا للضغط من قبل الجماعات المسلحة، الا ان هذه الجماعات المسلحة ما هي إلا نتاج لهما، فكانت السحر الذي إنقلب على الساحر. لذلك رأينا السيد رئيس الوزراء في بدلة نوم وشلة من حملة البنادق تعبث باجهزته وثيابه الداخلية في مشهد ميلودرامي، وشاهدنا السيد رئيس المؤتمر و القائد العام للقوات المسلحة في وضع مبتدل امام قائد احدى الميليشيات مخاطبا اياه متوسل “والله يا خوي هيثم ما ندس عليك حاجة“.
لقد فرط الأمر لدرجة مكنت ضابط فاشل من إعلان إنقلاب كاريكاتوري على المؤتمر ومطالبته بالتنحي، فكان مجرد إنقلاب تلفزيوني ربما ساعد على اخراجه بعض دول الجوار التي لا تريد للمشهد الليبيى ان يركن الى التهدئة حتى يتمكن من بناء الدولة.
الحديث عن اختلاط المشهد الليبي بالدراما والكوميديا قد يطول، لذلك من الاجدر ان نسأل أنفسنا: هل إنهاء الاستبداد كان ضرورة؟ وبكلمات أكثر صراحة: هل كان هناك ضرورة للثورة؟ ربما يعتقد الجميع ان قرأتي للمشهد ستدفعني الى الجواب بالنفي!!….. إلا أني أستطيع وأنا جدا مطمئن لجوابي أني كلما ساء الحال، كلما إزداد ايمانى بضرورة قيام هذه الثورة وكلما زاد إعتقادي انها تأخرت كثيرا جدا، ولا زلت اعتقد جازما انها مباركة، لاسبباب سنتبينها لاحقا.
لقد بداء الغزو الايطالي لليبيا في العام 1911 بدعوى تحريرها من الحكم العثماني، ثم تنازلت تركيا عن ليبيا لايطاليا في العام 1912 عقب توقيعهما معادة أوشي بلوزان سويسرا. الا ان الايطالييين لم يتمكنوا من حكم ليبيا بسبب المواجهات العنيفة مع المجاهدين الليبين، ولم يتمكن الطليان من السيطرة على ليبيا الا بعد اعتقالهم لشيخ الشهداء السيد عمر المختار، فبموته رحمه الله هدأت الاوضاع في ليبيا وضمت فعليا لإيطاليا لتصبح كما كان يحلو لها ان تسميها “شاطي ايطاليا الرابع”. فبدت مرحلة تعميرها لاعتقادهم انها لن تخرج من قبضتهم، فمدو بها الطرق والسكك الحديدية وبنو مدنها وعمروا مزارعها وشجروا قفارها، ومن المخجل ان نعترف بان اجمل العمارة وارقاها حتى هذا التاريخ هي تلك العمارة التي خلفها لنا الاستعمار الايطالي في السنوات العشر التي توقفت فيها المقاومة، وأفضل الغابات هي تلك التي زرعها الطليان وأحالها الليبين الى حطب ….. ربما نكاية بالطليان …..لكن الأهم من العمارة والطرق والغابات والمزارع هي المؤسسات التي بنوها لتسير الدولة.
خرجت ايطاليا مهزومة من الحرب العالمية الثانية، وبهزيمتها فقدت “شاطئها الرابع” ليدخل ضمن الانتداب الانجليزي حتى اعلان الاستقلال الكامل في 24 ديسمبر 1951م. وبريطانيا لا تختلف عن إيطاليا، فهي دولة مؤسسات، لذلك طورت مؤسساتها العاملة في ليبيا، وادخلت نظامها الاداري الى البلد، وبخروجها من المشهد الليبي وتسليم ليبيا لابنائها، تمكن الليبين في الاستفادة من تلك المؤسسات والادارة في تنظيم شؤؤن الدولة الوليدة، لذلك تطورت عجلة الحياة بسرعة فائقة نتيجة لوجود اسس بناء دولة ما كان الليبيون بقادرين على انشائها لو لم تكن موجودة. فالمجتمع الليبي مجتمع امي فقير، وحين اعترفت هيئة الامم المتحدة بالدولة الوليدة كانت هذه الدولة من افقر دول العالم، وما كان بمقدرو دولة بمؤهلات ليبيا واقتصادها ان تقف على قدميها، وتحقق ما حققته من نهظة نسبية رائعة لو لم تكن قد وجدت هذه المؤسسات وتلك الادارة. الخلاصة، رغم ان الاستعمار سيء، الا ان تركت الاستعمار والانتذاب لم تكن سيئة إطلاقا، فقد تركوا لنا اساس بناء الدولة واساس نمؤها.
عقب الانتذاب استفاذ الليبين من هذه التركة وساعدتهم في بناء وطنهم، وتسارعت وتيرة قيام الدولة بفضل وجود تلك المؤسسات وذلك النظام الاداري الصارم، الا ان الحظ لم يحالف ليبيا طويلا، إذ سرعان ما سقطت في مخالف الهدم الممنهج على يد زعيم طغاة العصر.
كما ان المؤسسة معول بناء، هي أيضا اداة سلطة، لذلك حتي يتم التحكم في مفاصل الدولة كان لابد من تفكيك مؤسساتها القائمة، وهذا بالفعل ما ثم القيام به ….. بدون الدخول في التفاصيل، نشير فقط الى اهم المحطات التي تم فيها تفكيك مؤسسات الدولة. كانت أولى هذه المحطات هي القضاء على الثقافة والتعليم فاعلن ما أسماه الثورة الثقافية أنهى فيها الوجود الفكري وقتل الحياة الثقافية في بداية السبعينيات وتقلصت المكتبات التي كانت عامرة بالكتب والقراء، واصبح اقتناء كتاب جريمة يحاسب عليها القانون. ضرب قطاع العمال في ما سماه ثورة العمال، وضربت القوة الطلابية في احداث ابريل التي مكنت لجانه الثورية من القضاء على افضل منارتين في الوطن وهما جامعة بنغازي وجامعة طرابلس، وقضى على المؤسسة العسكرية بإلغاء ميزة الرتب لصالح الولاء والإنتماء، فاصبح للعسكري الموالي للنظام سلطة أعلى من اكبر الراتب العسكرية، وبذلك قضي تماما على الانضباطية التي تحكم السلوك العسكري، وختم هدمه للمؤسسة العسكرية بانشاء كتائب ولى عليها ابنائه.
وفي حين نرى ان السلطة في الدول المتقدمة تبنى عن طريق البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن السلطة تبنى في الدول المتخلفة على قوة السلاح، فمن يملك السلاح يستطيع ان يحكم، يذكرني هذا الامر برواية القرود للكاتب الليبي الفيلسوف صادق النيهوم، إن لم تخني الذاكرة، في هذه الرواية يتحث عن قرد مشاغب طرد من القطيع، فجلس وحيدا بعيد ممسكا بعرف شجرة يابس، وبينما هو يخط على الارض خطوطا إذا بعقرب تقترب من العصاة وتتسلقها، وبدلا ان يقدف بها، حمل العصاة من طرفها الذي ابتعدت عنه العقرب حتى تصل نهاية الطرف لتعود، فإن عادت في إتجاه يده يحمل العصاة من طرفها الاخر. ثم خطر للقرد خاطر، فحمل عصاه والعقرب متعلقة بها الى القطيع، واصبح يهدد بها افراد القطيع حتى تمكن من السيطرة عليهم وضل يحكم كل القطيع بعقربه التي تتدلى من عصاته. لقد امتلك العقرب فامتلك سلطة السلاح وحكم بها، وهذا هو ما يقوم به زعماء الامم المتخلفة، بإمتلاكهم البندقية يتمكنوا من السلطة، لكن من يحمل عقربا لا يستطيع ان يبني دولة، لقد تمكن القرد من المحافظة على العقرب متدلية، لأنه يدرك تماما ان قوته تكمن في حفاظه عليها، وهكذا هم زعماء التخلف، يتجه كل همهم الى المحافظة على البندقية، فلا يبقى لهم وقت للتفكير في البناء.
لهذه الاسباب … لا زلت أؤمن بضرورة الثورة، واؤمن ان ما نحن فيه الان من سوء الحال ليس نتاج للثورة، بل هو ارت ورثناه، فلا يحق لنا ان نلعن الثورة بل علينا مباركتها، وان الذي يستحق اللعنة هو ذلك الارث الذي خلف دولة دون مؤسسات فيسر للمفسدين ان يعبثوا فيها. لقد ورث اجدادنا وابانا دولة مؤسسات من مستعمر اراد بهم سوء، وورثنا دولة لا مؤسسات فيها يتكرس الجهل والتخلف فيها يوما بعد يوم، فكان لزاما ان تقوم ثورة تعيد بناء المؤسسات حتى تبني الدولة، وتضع حدا للتخلف وتعمل على محو الجهل وإعادة الاخلاق التي افسدها التفاوت في الحظوظ، والتنافس على الولاء لتحقيق المغانم.
والله من وراء القصد
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً