قبل الولوج إلى عالم بنية العقل الليبي يرى الكاتب من المناسب التطرق إلى ما ذكره د. علاء جواد في ملخص بحثه بعنوان: بنية العقل البشري.. دراسة تأويلية في الأنتروبولوجيا المعرفية حيث يقول بأن بنية العقل البشري: “تتشكل وتتبلور في الأفران الثقافية للمجتمعات الإنسانية وتستقر (هذه البنية) في تلك النقطة العميقة في رأس الكائن البشري التي تشكل مراكز الإدراك والإحساس والتحليل والتفكيك وتستند إلى المنطقة من الجهاز العصبي المركزي لدى الإنسان الذي تصدر عنه التيارات العصبية وهي التي تنقل إلى الإنسان المعرفة بالعالم الخارجي عن طريق الحواس المختلفة”.
ما يميز الفرن الثقافي الليبي المتقد عن باقي الأفران الثقافية بأن الشعب الليبي مع أصالته المتجذرة في عروق آلاف السنين يتم إضافة نكهات ثقافية من حين لأخر دون توقف، لترتقي بقوته في المقاومة والاستمرار ولو على حساب الاستقرار الظاهري.
مجسات العقل الليبي:
الفرن الثقافي الليبي ملتهب بدون تباطئي، ومشتعل دون انطفاء، ومتوهج دون خمود على مدى المحور الزمني، ومع تقبل جميع النكهات الثقافية إلا أنه مع ذلك يضل يتمسك ويتشبث بالحرية ويرفض العبودية، فنكهة الحرية والتحرر وتتبيلها هي الفارضة نفسها على جميع النكهات الأخرى ولو غلبت عليها أحياناً بعض ملونات الاستكانة والخنوع. مجسات العقل الليبي لا تكل ولا تمل تبحث وتتحسس الحرية والتحرر وتتجرعها حتى الثمالة لترقص التحرر من العبودية أرضية كانت أم بشرية لتذوب في عُلا الحضرة الربانية موحدة للواحد الأحد سبحانه.
ليبيا وإن طال النضال:
العقود الزمنية في العمر المجتمعي البشري ليس بطويلة وينسحب، ذلك على القرون أحياناً، والمجتمع الدولي يعرف بأن ليبيا مهمة لهم والصراع أزلي على ترابها الجيوسياسي الرباني، ومع اليقين بأنها عصية تستمر الصراعات الدولية الحربية على أرضها لتفرض على الشعب الليبي الانحياز لطرف معين، إلا أنه سيختار في النهاية ما يصلح به! التاريخ يصدح بأن من الليبيين من أقتحم أوروبا وتسلل إليها منتصراً، ورد بل وشرد من رفضته بنية عقله الغائصة في أعماق التاريخ الاركيولوجي خارج أرضه. اليوم يحاول المجتمع الدولي تذويب أصالة المجتمع الليبي بإثقاله بنكهات ثقافية مرغمة، أو ما يمكن التعبير عنه بتوطين الهجرة البشرية المتطلعة للشمال وعيونها على أوروبا. وكما يقول د. الهادي أبوحمرة “مصالح المجتمع الدولي المؤثر لن تتوقف عند مصلحة النهوض بحقوق الإنسان والديمقراطية، ومراعاة المعايير الدولية، ومنع الإرهاب كما يظهر للعلن، وإنما تمتد إلى مسائل أخرى منها مسألة الجنسية، والتي تمس بتدابير الحفاظ على الهوية الليبية والتركيبة الديمغرافية لليبيا والأمن القومي”.
هل نترقب فيضان للعقل الليبي؟
صحيح بنية العقل الليبي تتقبل إضافة بعض النكهات للفرن الثقافي، ولكن بقدر. فإثقاله بما لا يطيقه أو يستوعبه سيكون سبباً وجيهاً للفرن الليبي لِلفظ هذه الإضافات بل ولو تطلب الأمر سيتقيؤها دم وقيح فاسد خارج حدوده. ومحاولات المجتمع الدولي في ليبيا اتخذت اتجاهين لتوطين التوابل الثقافية المرفوضة:
- ثقافة التطرف الديني: توطين داعش بسرت تم برعاية دولية ولا يستغرب الكاتب بأن الهدف في البداية لغرض تشويه المخزون الثقافي الليبي، مع عدم استغرابه أن تكون الغاية ربما تحويل سرت لفرن كبير يحرق فيه المجتمع الدولي بيادقه الذين يلعبون دور التطرف العالمي وقد انتهت صلاحيتهم.
- توطين المهجرين: الرمي بثقافات المتدمرين والقانطين من حياتهم، وكل من يرزحون تحت وطأة ونير الجوع والفقر والجهل، يضل هدف دولي لتشوية بنية العقل الليبي بعد تجريد الإنسان من آدميته وتحويله إلى آلة قادرة على تحريك الماكنة الصناعية للعالم الغربي ومآربه الأخرى.
استدعاء الذاكرة الليبية:
الذاكرة الليبية غنية بمخزونها الثقافي الثري بالمواقف المشرفة عبر التاريخ، والمجتمع الدولي يعرف هذا، والتشويش الذي يحاول به أن يشل الذاكرة الليبية الثقافية تارةً بصناعة الأزمات المعيشية والالتصاق بالمتطلبات الغريزية المادية الدونية، الدودية، وتارة أخرى بمحاول غرس الشذوذ الفكري الجامد كالتطرف “الوهابي” ودفعه إلى جمهرة القطيع. إلا أنه مع كل أنزلاق وانحدار وانتكاسة تواجهه تكون هناك استفاقة ونهوض وبعث فكري حر يرتد بكل قوة عن متطلبات الحياة الدونية أو ما يروج له من تحويش وتحويل الشعب الليبي إلى قطيع تسيطر على بنية عقله الرضوخ والانقياد للاستعباد الدكتاتوري ديني أم عسكري. تستدعي الذاكرة الليبية من حين لأخر الحرية والتحرر، التي تصل إلى درجة الانفلات التام من أي ترويض ولو كان مدنياً. نعم يحتاج المجتمع الليبي الحر لاستدعاء تلك النقطة الغارقة في وجدان العقل الليبي، ما بين رأسه وقلبه، والمتغلغلة في بنيانه الصلب في حفر الجينات الباحثة عن، بل والمتشوقة إلى، الموت لتحيا.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً