يدرك الجميع ولا تخفى عليه الوسائل والاساليب والأدوات التي يستخدمها المستعمر في القضاء على ثورات الشعوب، واخماد صوتها المطالب بالحرية والاستقلال؛ فهي تظهر في أوضح صورها المتمثلة في استخدام القوة الوحشية المفرطة بأدواتها الشرسة المتمثلة في الطائرات والدبابات والمدفعية والرشاشات والقنابل والاسلحة الكيماوية؛ التي تحرمها القوانين والانظمة والاعراف الدولية، فهذه ادوات مرئية واضحة ومُشاهدة رأي العين، ولا تخفى على أحد.
إلا أن المستعمر في كثير من الأحيان يستخدم أسلحة أشد فتكاً، ولا تقل خطورة وشراسة ووحشية من الاسلحة الظاهرة، وخطورتها تكمن في استمرارية أثارها لسنوات طويلة تتعدى إلى أجيال متتابعة ومتلاحقة، وتحقق ما عجزت وأخفقت في تحقيقه أسلحة التقليدية وبأقل تكلفة.
ويمكن التدليل على هذا النوع الخطير من الأسلحة الفتاكة والفاعلة في العمق المجتمعي للدول المُستعمرة بحادثة قصيرة وخطيرة تعطي فكرة كاملة وشاملة وتجلي ما خفي من أخطر ادوات الاستعمار الخفية ذكرها عن والده المفكر الجزائري الأستاذ ” مالك بن نبي ” رحمه الله في كتابه ” ميلاد مجتمع ” : وبحسبنا فيما أعتقد أن نضرب لها مثلا بتلك القصة القصيرة التي حكاها لي أبي الموظف بأحد المراكز جنوب شرقي الجزائر، حين كان يعمل في إحدى الوظائف المتواضعة، فقد كان المدير التنفيذي لهذا المركز رجلا عالماً – هو البرفسور” ريجاس REYGASS ” عالم أثار ما قبل التاريخ في منطقة شمال أفريقيا – ينظم سلوكه وفقا لما يمليه ضميره أكثر من أن يكون وفقاً لتقديرات الإدارة العليا .
وكانت في هذا المركز عائلتان جزائريتان كبيرتان، ظلتا في شجار دائم على أثر خلاف نشب بينهما منذ أمد بعيد، ولكن المدير الفرنسي أفلح في إقرار المصالحة بينهما. وكان سعيداً بمأثرته في إقرار السلام بين الأسرتين، فقد حكى قصته أمام جمهور كبير لأحد رؤسائه الإداريين، أثناء التفتيش في المنطقة، وانحدرت القصة إليّ من طريق أبي. قال: لقد أشتاط الرئيس الأعلى غضباً، حتى أنه لم يتمالك أن صاح بأعلى صوته قائلاً للعالم التائه بين دواليب الإدارة الاستعمارية: ” سيدي المدير: إننا لم نرسلك هنا قاضي مصالحات، لتهدئة المعارك، التي قد تفيد أحياناً مصالحنا العليا!
من خلال الحادثة التي يرويها الأستاذ مالك بن نبي عن والده رحمهما الله اثناء حقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر يدرك من له أدنى فهم مدى تعدد وتنوع الصور والوسائل التي يتخذها الاستعمار كأدوات للقضاء على اصوات الشعوب، وبث الفرقة بين مكونات المجتمع واللعب على وتر التنوع العرقي واللغوي والجهوي والقبائلي، وهو ما يحتاج منا إلى الوعي الكامل بحقيقة المستعمر وعلى الدراية كاملة بجميع أدواته سواء المحلية أو الخارجية ووسائله المعلنة والخفية؛ التي يستخدمها لتثبيت وجوده، وتعزيز مكانته في البلاد المُستعمرة، مع الأخذ في الاعتبار ما قاله الاستاذ “مالك” وعبر عنه بقوله: ولسنا نستطيع بكل أسف، وبتأثير أوضاعنا العقلية، أن نفهم عمل الاستعمار إلا ريثما يثير ضجيجاً، كضجيج الدبابة، والمدفع والطائرة، أما حين يكون من تدبير فنان أو عمل قارض فإنه يغيب عن وعينا لسبب واحد وهو أنه لا يثير ضجيجاً!
وتتجلى صورة أخرى لوسائل الاستعمار الخفية متطابقة تماماً وبنفس الوسيلة مع صورة المستعمر الفرنسي استخدمها المستعمر الانجليزي في بلاد عربية أخرى يرويها عميل المخابرات البريطانية في البلاد الإسلامية الجاسوس مستر “همفر” في مذكراته فقال: وذات مرة ذكرت لبعض رؤسائي في الوزارة – وزارة المستعمرات لبريطانية – اختلاف السنة والشيعة، وقلت له: إنهم لو كانوا يفهمون الحياة لتركوا النزاع ووحدوا كلمتهم، فنهرني الرئيس قائلاً: الواجب عليك أن تزيد الشقة لا أن تحاول جمع كلمة المسلمين.
وهذا نفس الكلام الذي أبداه المسئول الفرنسي لعالم الأثار البرفسور” ريجاس ” كرره المسئول البريطاني لعمل الاستخبارات “همفر” الذي يقوم على القاعدة الاستعمارية ” فرق تسد ” وهي من الوسائل الناعمة التي يستخدمها المستعمر مهما اختلفت جنسياته وتنوعت.
وهذا ما يوصي به الاستعمار عملائه الذين يرسلهم للدول التي يرغب في استعمارها أو التي قام باحتلالها ويريد أن يؤثر فيها ويقتل فيها فكرة الحرية أو الاستقلال فيقوم ببث الفرقة بين مكوناتها وإشغالهم بنزاعات داخلية تبعد هم عن التفكير أو السعي للتخلص من المستعمر.
وهو ما أكد عليه سكرتير وزارة المستعمرات البريطانية للعميل “همفر” حين قال “إن السكرتير قال: لي في إحدى الجلسات التي اجتمعت معه قبل سفري إلى العراق: أعلم يا همفر إن هناك نزاعات بين البشر منذ أن خلق الله هابيل وقابيل، وستبقى هذه النزاعات إلى أن يعود المسيح ، ومهمتك في هذه السفرة أن تتعرف على هذه النزاعات بين المسلمين، وتعرف البركان المستعد للانفجار فيها، وتزود الوزارة بالمعلومات الدقيقة حول ذلك، وإن تتمكن من تفجير النزاع كنت في قمة الخدمة لبريطانيا العظمى، فإننا البريطانيين لا يمكننا العيش في الرفاه إلا بإلقاء الفتن والنزاع في كافة المستعمرات.
هذه إحدى الوسائل الخفية المتفق عليها بين الدول الاستعمارية لترويض الشعوب وتفكيكها لتكون طيعة راضية خانعة تحت سيف المستعمر الذي يصادر الحريات ويغتصب الثروات ويفتت الأمم ويمزق الشعوب ويستعدي بعضها على بعض.
تعددت أشكل وأنواع الاستعمار والوسائل واحدة، وعلى الشعوب أن تكون على يقظة وشعور بأدوات الاستعمار الظاهرة والباطنة وما خفي منها كان أعظم وأشد فتكا، ومع تعدد المستعمر فالنتيجة واحدة لأن الأهداف والوسائل متطابقة.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً