“الهوية الوطنية تعني استعداد الشخص ‘للموت من أجل المجموعة الأكبر”
فرنسيس فوكاياما
الهوية والإنتماء
سبق وأن تحدث عن الهوية في اول محاضرة لي من منبر الملتقى الثقافي العربي بلندن، وبينت أن موضوع الهوية هو موضوع وجداني صرف، لا تحكمه حركة الإقتصاد والسياسة فقط، هو شعور عام عند المثقف وغير المثقف، عند الامي والمتعلم، عند الذكر والأنثى، وحتى عند الاطفال.
ويرى فرويد إن الهوية (Identity) ترتبط بخاصية أصيلة في الفرد تتمثل في غريزة الإنتماء، وان الهوية تعبر عن ارتباط عاطفي للفرد بجماعة ما وينعكس ذلك علي سلوكه، بما في ذلك سلوكه السياسي. وقد صدق في ذلك الى حد كبير، فقد نشأت في العالم الغربي احزاب مبنية على التوجه الأثني، فمعظم الاحزاب اليمينية هي احزاب إثنية قومية، وبعض هذه الاحزاب يظهر توجهه الاثني صراحة في اسمه كالحزب الوطني البريطاني (British National Party) والحزب الوطني الاسكتلندي (Scottish National Party).
قليل من التاريخ والجغرافيا
إذا شعور الهوية والإنتماء هو شعور أصيل متجدر في الفرد وفي الجماعة ما وجدت هذه الجماعة. والأمازيغ كمكون إثني موجود منذ الاف السنين، وقد لا نبالغ إن قلنا إنها من السلالات التي ربما سبقت الوجود العربي تاريخيا، ولا شك أنها موجودة في الشمال الافريقي قبل العرب، لذلك يحق لنا أن نستنتج أن الامازيغ هم أصحاب شمال افريقيا وإن العرب وافدين عليها، فأول موجات التواجد العربي كانت خلال فترة الفتوحات الاسلامية التي يحلو للبعض أن يسميها الفتح العربي لشمال افريقيا.
لقد عاصر الشمال الافريقي كل مراحل التطور التاريخي التي مر بها العالم، ولم يكن متفرج على الاحداث بل حاضنا لها ومساهم فيها، فقد تركزت جل الحضارت القديمة في محيط البحر الابيض الذي يطل على شاطئه الجنوبي. أسس شيشنق الاسرة الفرعونية الثالثة والعشرين، وحكم الليبيون الامازيغ مصر لما يزيد عن قرنين من الزمان، وأثر الليبيون في الحضارة الاغريقية التي تأسست بعض جدورها الفكرية والدينية في الشرق الليبي وبالتحديد في ما يعرف الآن باقليم برقة، فاخد الاغريق عن الليبين الهتهم التى إنتفت عنها الصفة الليبية واصبحت يونانية صرفة. وحكم الرومان غرب ليبيا واسسوا فيها اعظم مدنهم خارج ايطاليا، كما استطاع المواطن الليبي أن يعتلي عرش الامبروطورية الرومانية، فقد حكم سبتموس سيفيروس الليبي ومن بعده ابنه كاركالا روما عاصمة اعظم الامبرطوريات القديمة.
ومن الملفت للنظر إن اقدم عمل روئي مكتوب هو – الحمار الذهبي – وهو عمل امازيغي كتبه الاذيب والفيلسوف الامازيغي لوكيوس ابوليوس، وربما يكون هذا العمل هو الذي اوحى لفرنز كافكا كتابة روايته الرائعة التحول (Metamorphose). ويكفي الليبين فخرا أن اجدادهم هم أول من إخترع العجلة وأستعملوها في صناعة عرباتهم المميزة قبل أن تنتقل إلى باقي أصقاع الارض.
وقد اعتنق الامازيغ او جزء منهم النصرانية واخلصوا في عقيدتهم هذه، وبرز فهمهم لهذه العقيدة في كتابات القس الأمازيغي اوغسطين الذي يعتبر قطب من اقطاب الفكرالديني النصراني.
كما ساهم الامازيغ بدرجة كبيرة جدا في الفتوحات الاسلامية لاوربا، اذ كان دخول الاسلام الى شبه قارة ايبريا على اياديهم تحت قيادة الزعيم الامازيغي طارق بن زياد. وكانوا عونا في دعم الممالك الاسلامية في اسبانيا، فقد دعم يوسف ابن تاشفين هذا الوجود بقوة.
ومن عظماء الامازيغ الذين اضافوا الى الفكر الإنساني ندكر ابن خلدون الذي اسس لعلمين مهمين في الزمن المعاصر وهما علم الاجتماع وعلم التاريخ، وقد اضهر نبوغا فائقا في دراسته للتاريخ وللفكر الإنساني بصورة عامة، فقد تميزت قراءته للتاريخ وللمجتمع بقراءة نقدية تعتمد على التحليل وليس السرد كما كان معروف قبله. وفي علم اللغة برز العالم يهودا بن قريش التاهرتي، كان يجيد العربية والعبرية والأمازيغية والفارسية والآرامية وكتب في علم اللغات المقارن. وقد إحتفلت وكالة ناسا منذ مدة بشخصية امازيغية مميزة هو عباس ابن فرناس رائد الطيرن وفارسه الاول. ولا شك أن ابن رشد من الشخصيات التي لا يجادل احدا في علو همته في مجال الفكر والفلسفة وهو شخصية امازيغية. وكذلك ابن طفيل وإبن البيطار.
جغرافيا تمتد رقعة الامازيغ من واحة سيوا في مصر حتى جزر الكناري الاطلسية، وبعد بزوغ الربيع العربي اصبحت مطالب الامازيغ اسوة بغيرهم من الشعوب تظهر على السطح، ويعتقد امازيغ ليبيا وتونس على اقل تقدير أن التغير الذي شمل المنطقة سيمكنهم من نيل حقوقهم الطبيعية كاملة، وقد ساهموا كما ساهم غيرهم في إنجاح الثورات، الا إنهم فشلوا مع غيرهم في بناء الدولة لاسباب عديدة.
مفهوم العروبة عند الأمازيغ
من الامور الطريفة في مفهوم العروبة عند الأمازيغ أن كل من هو مسلم فهو عربي، وقد كان الأمازيغي (واعتقد جل الليبين) إلى وقت قريب يندهش إن علم أن عربيا يدين دينا آخر غير الاسلام، ولا زالت في اللغة الامازيغية كلمة عربي مرادفة لكلمة مسلم، فالامازيغي عندما يصف عقيدته يقول عنها “نتش داعراب” بمعنى “انا عربي”، و”نتشين ديعرابن” بمعنى “نحن عرب”، لكنه لا يقصد بهذ اللفظ عروبة العرق وإنما عروبة الدين، أي الاسلام.
الاقليات والاثنيات
يجب اولا أن نفرق بين الاقليات والاثنيات، فالاثنيات هي شعوب وامم لها امتدادا جغرافيا يتجاوز الحدود السياسية، بينما الاقليات هي مجموعات قد تكون ضمن الإثنية الواحدة تتمايز فيما بينها فكريا، لذلك نجد عدد من الاقليات في نفس الامة، فالتنوع الديني والفكري بعض من مظاهر الاقليات، الشعوب العربية جلها مسلم لكن توجد بها نسبة محترمة من المسيحية والقليل من اليهود والطوائف الاخرى التي تلحق ببعض هذه الديانات. وفي الدين الواحد تتعدد المذاهب، فاصبحنا نرى من يدعوا نفسه سني واخر شيعي والعداء بينهما اصبح مستحكم، وهناك المسيحي القبطي والارمني والارتودوكسي والإنجيلي الذين لا يلتقون الا على فكرة أن المسيح قد قام من الاموات. والفكر الليبرالي أنشأ انواعا جديدة من الأقليات، لا أقل من التدليل على ذلك من أوراق عدم التمييز التي تملأ في الدوائر الرسمية في الدول الغربية، فقد تعدد النوع الإنساني إذا أن الجنس كان نوعين مذكر ومؤنت، أضيف اليه حديثا المتحولين. والميول الجنسية بعد أن كانت صنف واحد اضيف اليها أنواعا اخرى والذي كنا نسميه شدودا أصبح ميل جنسي مقبول يشكل أقلية معتبرة لها مطالب وتركز كيانها في المجتمعات الغربية، والعلاقات الزوجية كانت علاقة واحدة بين النوع الاول الذكر والأنثى، الان اصبحت علاقات ثلاثة تشمل الزواج بين الذكور وكذلك بين الأناث. وفي حين تعددت الاقليات الا إن الاثنيات في تقلص، فقد اختفت مثلا الامة المصرية وفقدت اهم المقومات الاثنية وهي اللغة، فلا توجد لغة مصرية، واصبحت جزء من الامة العربية. لذلك معالجة هذا الموضوع تحتاج الى معرفة وفهم دقيق للفرق بين الاقلية والاثنية، ومعالجة كل موضوع حسب تصنيفه. إذا أن المطالب الاثنية تختلف عن مطالب الاقليات. والحقوق الاثنية حقوق طبيعية، بينما حقوق الاقليات تتراوح بين حقوق طبيعية وحقوق سياسية، وهذا فرق يضع في الحسبان. كما وأن المخاطر التي تنتج عن عدم تحقيق المطالب الاثنية تختلف عن تلك التي تنشاء عن عدم تحقيق مطالب الاقليات.
التعايش السلمي
النقلة النوعية في وسائل الاتصال الحديث وسهولة التعامل معها، بعيد عن الرقابة الصارمة التي تمارسها بعض الأنظمة، قوى من النزعة الاثنية في عالم القرن الواحد والعشرين. وقد سهلت وسائل الاتصال ووسائل التواصل الاجتماعي هذه معرفة التركيبة السكانية للعالم، والذي يتكون من إثنيات مختلفة، قد تكون موزعة في رقع جغرافية تفصلها حدود سياسية، كما هو الحال مع الاكراد الذين يتوزعون بين خمس اقطار والامازيغ الذين يتوزعون في كل بلاد الشمال الافريقي. وسائل التواصل الحديثة أزالت هذه الحدود بين الشعوب، وبالتالي بين الإثنية الواحدة، هذا التواصل قوى من النزعة القومية عند بعض الشعوب، إلا إننا للإنصاف فإن هذه النزعة لم تكون لتقوى لولا السياسات التي تمارس في بعض البلدان ذات التركيبة الاثنية المتنوعة.
وقد كان الاعتقاد السائد حسب التصور الماركسي أن التطور التاريخي سيعمل على حدف وتلاشي الإنتماءات الاثنية، ليحل محلها الإنتماء الطبقي. نظرية كارل ماركس الشهيرة “المادية التاريخية”، اعتبر فيها أن نهاية تاريخ الاضطهاد الإنساني سينتهي عندما تزول الفروق بين الطبقات.
وحسب التصور الرسمالي يحل محل الاثنية الإنسان الاخير (Last man) كما يعبر عن ذلك فوكياما في فكرته حول الصراع التاريخي المتكرر بين “السادة” و”العبيد” والتي يعتقد أن لا يمكن أن يجد له نهاية واقعية سوى في الديمقراطيات الغربية واقتصاد السوق الحر.
الا إن الواقع اثبت خطاء هذا الاعتقاد، والدليل في ما نراه الان في العالم العربي، فقد تأصلت مطالب الاكراد وقوة لحمتهم في الشرق العربي، وإنتهضت مطالب الامازيغ في شمال افريقيا.
التعايش السلمي كمفهوم سياسي ظهر عقب المرحلة الستالينية لإنها التصعيد المتبادل وسباق الريادة والتنافس ذو الخلفية العدائية بين المعسكرين الشرقي الاشتراكي والغربي الرأسمالي. وقد أعلن نيكيتا خرتشوف سياسته هذه القائمة على مبدأ قبول الايدلوجيات المختلفة، والتفاهم والتعاون لحل القضايا والنزعات بين الشعوب.
لا يجب أن ننسى أن الاسلام واضح في فكرة التعايش السلمي، اذ نقراء في القران الكريم قول المولى عز وجل “إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” لا تحتاج هذه الاية الكريمة الى مزيد من الشرح، هذه الاية تخاطب البشرية دون تحديد الخلفية الفكرية او الدينية للمخاطب، وهي تضع حجر الاساس للعلاقات بين البشر. كذلك وثيقة المدينة التي سطرها المصطفي عليه افضل الصلاة، فقد اسست لمفهوم المواطنة بشكل غير مسبوق في التاريخ الانساني. ربما لم يستطيع المسلمين تطوير هذه الفكرة وفشلوا في ذلك كما فشلوا في تطوير النظام السياسي بحكم الغلبة للعرق العربي في هذه الحالة، الا إن الفكرة واضحة ويمكن أن يبنى عليها.
الواقع العربي
ورغم إن الاثنية (Ethnic) مصطلح طبيعي، إلا ان بعض مشتقاته كالاثنية المركزية (Ethnocentrism) أو التمركز الإثني (Centro-ethnic) مطلحات مدمومة لأنها تتضمن الاعتقاد بالتفوق العرقي كما ظهر ذلك في المانيا النازية وايطاليا الفاشية وما يعتقده اليهود الصهاينة، وبالتالي فهو يقترن بالعنصرية احيانا، لذلك تجد الصراعات تتأزم في المناطق التي تنتشر فيها ثقافة الاثنية المركزية او التفوق الاثني. ولنا أن نتصور ذلك من حجم الصرعات العرقية والاثنية في العالم وفي المنطقة العربية خصوصا. بعض الاحصائيات تقول أن العرب يشكلون اقل من 8% من سكان العالم، ورغم ذلك فنسبة الصرعات الاثنية فيه تجاوزت 25% من الصرعات المسلحة في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. جل هذه الصرعات لها جدور عرقية. وفي حين ان الصراع العربي الاسرائيل وهو صراع وجودي مصيري قد حصد ما يقرب من ربع مليون نسمة في ما يزيد عن نصف قرن بقليل، فإن الصراعات العرقية التي لا تقارن به حصدت ما يقرب من 2.5 مليون نسمة، ناهيك عن التدمير المرافق لهذه الصراعات. فالحرب الاهلية اللبنانية أزهقت ما يقرب من ربع مليون روح، وضحايا الحرب الاهلية في السودان قاربت المليون نسمة، ولا يدخل في هذه الاعداد حرب الاعوام الثلاثة الأخيرة في سوريا واليمن وليبيا. طبعا رافق هذه الصرعات الكثير من عمليات التهجير وتدمير مرافق الدولة وبنيتها التحيتة بالاضافة الى مصاريف القتال الباهضة، وتكريس العداوة بين المواطنين وهي اخطر، لأنها تجر الى تفكيك الوطن كما رأينا في إنفصال جنوب السودان عن باقي السودان وميلاد دولة جديدة.
بالتمعن في هذه الحقائق نعترف – إن كنا على قدر من الشجاعة في مواجهة النفس- بأن اكبر خطر على الدول العربية لايأتي من الخارج ومؤامراته، فالخارج لا يحتاج للتأمر علينا ما دمنا مهيئن للاقتتال بسبب وبدون سبب، الخطر يأتي من الداخل. لقد نجحت دول الغرب في التحول إلى دول قومية، ودمجت الأجناس والطوائف بداخلها، ويعود نجاحها في بناء الدولة القومية الى تأسيسها على اسس ومفاهيم كالمواطنة والمشاركة السياسية والاقتصادية، زد على ذلك إن هذه الدول تبنت أنظمة حكم قائمة على الديمقراطية وفصل السلطات والتمثيل الشعبي ومحاسبة الحكومات ، فذابت الفروق السياسية بين طوائف نسيجها الاجتماعي. إلا إن البلدان العربية لم تعرف هذه المفاهيم، فأنظمة الحكم العربية هي أنظمة حكم وراثي غير دستوري أو انظمة إنقلابات عسكرية بالطبع هي الأخري غير دستورية، وقد اتخدت هذه الأنظمة من الإسلام أوالعروبة مرتكزات وشعارات ليس إلا، فهي لم تكن صادقة في حمل هذه الشعارات، وإنما فقط حملتها لتحقق اكبر قدر من القبول والاصطفاف الشعبي حولها. كما إنها إنتهجت أسلوب الإلغاء والتهميش لكل ما يخالف العروبة والاسلام، ولم تعترف بالأقليات كشركاء ومساوين في الوطن وفي الإرث الثقافي والتاريخي المشترك بصورة جدية، وإنما اعتبرتهم بقايا لحضارات بادت وأنتهت. وقد نشاء عن هذه المرتكزات أيدلوجيات سادة المنطقة وهيمنت على الفكر السياسي فيه.
الايدلوجيات السائدة
الايدلوجيات السياسية السائدة في المنطقة العربية تنازعها تيارين هيمنا على الفكر السياسي. هذين التيارين هما التيار القومي والتيار الديني، ولهذين التياريين وجهتي نظر للمفهوم الاثني تتقاطع في بعض فصولها فتقترب حتى تذوب وتبتعد حتى القطيعة في بعظها الاخر، وبين هذين التيارين إختفى التيار الوطني.
وجهة نظر التيار الديني مبنية على فهم هذا التيار للدين، في إعتقاد منتحيلها مبنية على متطلبات التدين وشرط من شروطه، وبالتالي فهذه النظرة تستبعد غير المسلمين من خارطة الامة كما يفهمه دعاة هذا التيار، ويخرج غير المسلمين من أفقها السياسي. هذا التيار يعتقد في الدور الروحي للمراكز القيادية الكبري في الدولة، ومن الطبيعي أن لا يتمكن اصحاب الديانات الاخري، بما فيها المذاهب الدينية غير السنية من الوصول الى هذه المناصب. وفي هذا التصور يعتبر غير المسلمين اهل ذمة يجب عليهم احترام هيمنة الدولة الاسلامية، مقابل أن يعاملوا بكل احترام ومودة ما ضلوا قابلين لهذا الوضع.
الجانب الثاني في فكر هذا التيار، كل المسلمين متساويين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن إنتمائهم العرقي والثقافي والوطني. وبالتالي المسلمين الافارقة في السودان والاكراد في العراق وسوريا والأمازيغ في شمال افريقيا يملكون نفس الحقوق التي يملكها العربي ويتساو في الواجبات. لذلك فهناك قبول لهذا التوجه من المسلمين غير العرب.
وجهة النظر الأخرى، وجهة التيار القومي وهو تيار علماني نشاء فترة الاستعمار وعقب سقوط الامبرطورية العثمانية، ويضن البعض إن هذا التيار هو إنتاج بريطاني لتفكيك الامبرطورية العثمانية. تدهب وجهة نظر هذا التيار الى أن كل من يتحدث العربية ويحمل الارث الثقافي العربي ويعتقد في عروبته هو عضو في هذه الامة التي تعرف بالامة العربية، يتمتع بكل حقوق المواطنة بغض النظر عن عرقه او دينه او مذهبه. لكن لا يعترف هذا التيار بالمواطن غير العربي كمكون مستقل له حقوقه الخاصة، الا ان المواطن غير العربي حسب وجهة نظر هذا التيار يعامل معاملة المواطنين تحت مظلة القانون السائد.
لاحظ أن كلا النظرتين قاصرتين في التعامل مع المشكل العرقي والتنوع الاثني والثقافي، ففي حين يستبعد الاسلاميين غير المسلمين (ويستبعد المذاهب الاسلامية غير السنية بالنسبة للتيار السني ويستبعد المذاهب الاسلامية غير الشيعية بالنسبة للتيار الشيعي)، فإن التيار العروبي يستبعد غير العرب من القوميات الاخرى التي تشكل جزء مهم من جدور الشعوب التي سكنت المنظقة العربية.
ماذا يريد الامازيغ
مطالب الامازيغ ليست جميعها واحدة، وينقسم الامازيغ في رؤيتهم لما يجب أن يكونوا عليه الى ثلاث تيارات هي:
تيار ديني يتماهى مع الطرح الاسلامي لفكرة الامة ويتبناه، الا إن هذا التيار معرض للإنقسام عن ذاته بسبب المدارس الفكرية التي ينتمو اليها، فجزء كبير من الامازيغ يتبعون المدرسة الاباضية، ورغم أن التيار الاسلامي العام يقبل الاباضية كمذهب سني، على الاقل في ليبيا، فإن التيارت السلفية الحديثة لا تقبل الاباضية ضمن اطارها الفكري والسياسي، ويكفر غلاة هذا التيار الاباضية ويصفوهم بالخوارج، وقد ظهر هذا جليا في احداث غرداية الاخيرة بين الاباضية والمالكية الذين عاشو في وئام لم يفسده الدهر حتى إنتشرت الحركات السلفية الحديثة في شمال افريقيا. في ليبيا، الوضع كان مختلف كثير، فالكثير من اقطاب الحركة الاسلامية من الامازيغ الذين لا يختلف الليبين عن صدق وطنيتهم وفي مقدمتهم الشهيد الدكتور عمرو النامي وشيخه ابو الشهداء الشهيد على يحي معمر.
تيار وطني يرى امتداده في كل الشمال الافريقي، لكنه يؤمن اكثر بإنتمائه الوطني لليبيا، ويرى في إنتماءه الوطني اكثر قدسية من إنتمائه العرقي، الا إنه يعتز بامازيغيته ويرى من واجب الدولة الليبية أن تعترف بامازيغية ليبيا وتضمن هذا الاعتراف في دستور الدولة، هم دعاة لدولة ليبيا وليس لدولة ليبيا عربية او دولة ليبيا امازيغية.
تيار قومي شوفيني، وهو لا يختلف عن التيار القومي العروبي، وعن التيارات القومية الرديكالية في كل العالم، يعتقد في تفوقه العرقي، ويخجل أن ينعت بالعربي، ويطالب بوطن قومي للامازيغ يمتد من واحة سيوة حتى المحيط الاطلسي وجزر الكناري. ويرى في الوجود العربي وجود استعماري يجب ازالته، وغلاة القومية الامازيغية يدهبون الى التنكر حتى للدين الاسلامي باعتباره في اعتقادهم سبب محنة الامازيغ وسلطة العرب عليهم.
التعايش …..دولة المواطنة
لقد تكرس الواقع القطري للدول العربية، سوء تلك التي لا تحتوي الا على العرق العربي كدول الخليج والسعودية، او تلك الدول متعددة الاثنيات كما هو الحال في سوريا والعراق وبشكل اقل في شمال افريقيا، واصبح حقيقة ماثلة للجميع بشكل لا يسمح بجمع هذه الدول والاقاليم تحت سقف واحد في اطار دولة مركزية واحدة كما يطمح القوميين العرب، ولا أن تجمع في امة واحدة ذات عقيدة احادية المذهب كما يطمح الاسلاميين . كما اصبح صوت الاثنيات المختلفة ومطالبها واضح لا يقبل التجاهل والإنكار، ويجد سندا له في المحافل الدولية التي تحيل كل القضايا الى ملفات حقوق الإنسان. لم تعد الإثنيات شأن داخلي، بل اضحت قضية كونية تهم الجميع ومدعاة للتدخل الخارجي. لذلك فالاستفادة من تجارب الشعوب الاوروبية في حل هذه الاشكالية، وبناء الدولة على اسس المشاركة وفصل السلطات والمحاسبة والتمثيل الشعبي، هذه الاسس في بناء الدولة كفيل بالقضاء على الفروق الاثنية وإنصهارها في بوتقة الوطن الواحد، دون التحلل من الارث التاريخ لكل اثنية والإنفصام عن جدورها العرقية وموروتها الثقافي. على إن هذا الامر لابد أن يعبر عنه ويضمن في عقد اجتماعي متفق عليه. ربما ليس من السهل في الواقع الليبي مثلا اقناع شريحة من الليبين بجدوى هذا الاعتراف، الا إن الثورة الليبية ومساهمة الامازيغ فيها جعلت هناك تفهم واضح من الكثير من الليبين لحقيقة التنوع في ليبيا، ولولا الإنفلات الامني الاخير والحرب التي قادها حفتر على الثوار في بنغازي وإنقلاب فجر ليبيا وتجدر العداوة بين رفقاء السلاح، لكن وضع المطالب الامازيغية افضل حالا. الا إن الإنقسام الحاد إنعكس سلبا على الموضوع الامازيغي في ليبيا تماما كما أنعكس سلبا على بناء الدولة ذاتها، وربما رجعت هذه المطالب الى المربع الاول، مربع اقناع الليبين بضرورة تحقيق هذه المطالب، وتفهمها كمطالب طبيعية يحق لهم الاعتراف لهم بها. في نقاط:
الدعوة الى عروبة ليبيا لا تختلف عن الدعوة الى امزغة ليبيا، لأن كل من الدعوتين تلغي الاخر، وتُجدر الهيمنة الأثتية، لذلك فدولة المواطنة وقبول التنوع يلغي مشاعر التفوق العرقي الذي يشعر به القوميين.
لقد فاجئتنا الثورة الليبية حينا علمنا أن جزء كبير من الليبين لا يعلم بوجود الامازيغ في ليبيا، فقد عمدت الدولة في تغييب المعلومات عن مكونات المجتمع بل وتجاهلتها تماما، ومارست سياسة الإنكار و القمع و الصهر القومي بدعوى مطالب الامن الوطني والإنتماء الديني وقدسية اللغة وهي ليست كذلك. لذلك اصبح من العسير على المواطن العادي أن يتقبل وجود الاخر، فالإهتمام بالموروث الثقافى التقليدى مهم لحل الاشكاليات الاثنية.
تعزيز وإيقاظ الوعي بالمصالح المشتركة، رقعة ليبيا كبيرة جدا وبها تنوع في مصادر الرزق، بحر يمتد على مسافة 2000 كلم، وجبال متنوعة تغطي اجزاء معتبرة من هذه المساحة، وتاريخ عريق يمتد اكثر من 7000 سنة متنوع بالحضارات المختلفة وبالاثار التي تدل عليه، وصحراء مميزة، ناهيك عن الثروات الطبيعية التى حباها الله بها، كل ذلك يجعل من هذا البلد جنة لمواطنيه إن تحققت الهوية الوطنية وتأسست دولة المواطنة.
والله من وراء القصد
——————————————————————————————————
(1) القيت هذه المحاضرة في المنتدى الثقافي العربي بلندن في ندوة بعنوان مستقبل التعايش بين العرب والاثنتايات المختلفة، الاكراد والامازيغ نمودج.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً