علّمنا التاريخ أن اللغة تقوى وتزدهر بقوة أهلها وازدهارهم، ولم لا فهي أداة تواصل وتفاهم تحمل المضمون الإنساني والاجتماعي والعلمي والتاريخي والديني، كما تحمل أيضا قيم الخير والجمال والتراث والوجدان. إنها تجمعنا معاً في المجتمع الذي نعيش فيه، فلطالما كانت اللغة ظاهرةٌ اجتماعيَّة تَنشأ كما يَنشأ غيرها من الظَّواهر الاجتماعيَّة، وتزداد قوتها الجامعة بقدر حضورها واستخدامها ونفاذها في حياتنا اليومية لتجسيد الفكر الذي نعبر به عن واقعنا وحاجاتنا وطموحاتنا وإسهاماتنا، فأضحت بذلك محدداً قوياً للهوية الوطنية.
شكل انطلاق عصر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وانتشار استخدامها في دقائق حياتنا تحدياً كبيراً للغة العربية، فاللغة العربية تأتي في المرتبة السادسة عالميّا من حيث الانتشار، في حين لا يتعدى استخدامها في الشابكة (الإنترنت) 4%، أي يسبقها العديد من اللغات الأخرى.
لقد جاءت هذه الفجوة أو الهوة الرقمية لتزيد الطين بلة، إذ أن المعرفة العالمية تنمو بسرعة مذهلة والمصطلحات الإنكليزية الجديدة تظهر يومياً، فلا تستطيع اللغة العربية مجاراتها لأسباب عديدة، لأن عدد القراء العرب المنخفض لا يبرر الترجمة إلى العربية أو التأليف بالعربية خاصة في المجالات العلمية والتكنولوجية، ومجامع اللغة العربية التي تكاد تكون غائبة عن العالم الرقمي لا تتوافق على ما تصدره من مفردات ومصطلحات جديدة، وإذا ما أصدرت مثل هذه المفردات والمصطلحات فإنها تأتي متأخرة جداً، يعتاد خلالها القاريء العربي على المصطلحات الأجنبية، وهكذا يجري تهميشها تدريجياً كلغة عمل وتواصل على جميع الأصعدة، بدءاً من النشر العلمي للعلوم الأساسية والطبية والإدارية وتكنولوجيا المعلومات، مروراً بالتعليم العالي والتجارة والصناعة والاقتصاد، وغيرها، وصولاً إلى التعليم الأساسي الذي يعد حجر الأساس في هذا المجال، وهذا يعني ضعف انتشارها واقتصارها على الدين والأدب وبعض المجالات المحدودة، ولا يغيب عن الذهن تأثير ذلك على الهوية الإنسانية والثقافية والوطنية بشكل عام.
إن نظرة إحصائية سريعة تبين أن عدد مستخدمي الشابكة هذا العام يزيد عن ثلاث مليارات، منهم نحو 100 مليون عربي من أصل سكان البلاد العربية الذي يتجاوز 380 مليون نسمة، وبذلك يكون عدد المستخدمين بالعربية أقل من عدد المستخدمين بالألمانية رغم الفارق الكبير في عدد السكان. أما عدد المواقع العربية في الشابكة، فيشكل أقل من 1% منها، وهذه النسبة أقل من عدد مواقع الناطقين بالهولندية على سبيل المثال، والذين لا يزيد عددهم في العالم عن 20 مليون نسمة، وكذلك أقل من عدد المواقع الإيطالية، والتركية، والبولندية وغيرها الأمر الذي يعكس ضعف حضور اللغة العربية في الساحة الرقمية وبالتالي لجوء مستخدمي الشابكة (الإنترنت) العرب إلى مواقع غير عربية تستخدم الإنجليزية والفرنسية، وغيرها، وهذا ما يعيق انتشار اللغة العربية وتطورها، سيما أن القراء العرب قلّة بالنسبة لعدد الناطقين باللغة العربية بغض النظر عن التقنية الرقمية التي سهلت الحصول على المعلومات.
يمكننا القول أن الفجوة أو الهوة الرقمية هي المسافة التي تفصل بين مَن يملك ومَن لا يملك كماً ونوعاً من المعرفة التي يستطيع تسخيرها وتنميتها لمصلحته. نعم، لقد تطورت “الفجوة الرقمية” بسبب التقدم التكنولوجي المتسارع وتراكم المعارف في الدول المتقدمة، التي تملك البرامج والتقنيات الحديثة والخبرات لتوليد المعرفة ونشرها وتبادلها واستثمارها، في حين تأخرت معظم الدول النامية، خاصة فيما يتعلق بتطوير التقنيات الرقمية وتجديد أساليب ومنهجيات التعليم والتعلم واكتساب المعرفة وتوليدها.
هذا، ويمتد ضعف “المحتوى الرقمي العربي” ليس فقط إلى مواضيع المحتوى الإنساني والثقافي والتاريخي والعلمي والتعليمي والأدبي والاقتصادي، وكافة الخدمات المجتمعية المعتمدة على الشابكة، بل أيضاً إلى التطبيقات التي تعالج هذا المحتوى، وبرامج التعرف المختلفة ومعالجات النصوص، ومحركات البحث، وغيرها، لذلك يعد هذا الضعف أحد أهم العوائق التي تواجه المجتمع العربي في التحول إلى “مجتمعات المعرفة والمعلومات” بعد الزيادة الهائلة في استخدامات الشابكة في دقائق حياتنا اليومية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، الأمر الذي جعل من صناعة وتنمية هذا المحتوى المحرك الرئيس للاقتصاد المعرفي، فأضحت صناعة “المحتوى الرقمي العربي” حاجة ملحةً اقتصادياً، وعلمياً واجتماعياً بل وإنسانياً وثقافياً ووطنياً، وكما قيل “المحتوى هو الملك في اقتصاد المعرفة”، لذا، ينبغي تنمية هذه الصناعة وتطويرها من خلال مراجعة وتنفيذ الإستراتيجية العربية العامة لتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات لبناء مجتمع المعلومات ولاسيما تحفيز السوق التنافسي لمجتمع المعلومات العربي ودعم مشاريع “الحاضنات التكنولوجية” و”البوابات المجتمعية الإلكترونية”، وباقي أشكال صناعة وخدمات “المحتوى الرقمي العربي” الذي يرتكز على تنمية “النفاذ الرقمي” داخل المنطقة العربية في إطار ثقافة احتوائية تنموية مستدامة شاملة.
خلال السنوات الماضية، تركزت الجهود المبذولة لمواجهة هذه التحديات على عقد الندوات والمؤتمرات ذات الشعارات الرنانة، وإصدار توصيات تبدأ ولا تنتهي، وكأن الكم الهائل منها بمفرده، يسهم في معالجة هذه الفجوة الرقمية التي اتسعت إلى أن أصبحت هوة سحيقة، لا تفلح معها كل الفقاعات الإعلامية المصاحبة لمثل هذه المؤتمرات.
وللأسف، في الوقت الذي نسعى فيه لردم الهوة الرقمية في المحتوى الرقمي العربي تتراجع اللغة العربية المستخدمة في برامج التعليم، وحتى في المجتمع بشكل عام، بل حتى العمالة المستخدمة على نطاق واسع في عدد من الدول العربية، لا يراعى فيها عامل اللغة الأمر الذي لا يقود إلا إلى المزيد من تراجع لغة الضاد وتآكلها حتى بين أهلها.
ورغم ذلك، لا يمكننا أن نغفل عدداً من المبادرات والمشاريع العربية الجادة، في أكثر من دولة عربية، لكنها تبقى محدودة الأثر وبعيدة عن وقف اتساع الهوة، ما لم نتبنى مقاربة شاملة، تجعل صناعة المحتوى الرقمي وتنميته قضية مجتمعية بامتياز، فالهوة الرقمية لا يمكن جسرها دون أن نبدأ بإعادة بناء النظام التعليمي العربي، وحمايته من الفساد وضعف الشفافية، ورصد الموارد المناسبة له، وتعزيز دوره المجتمعي، فالإرادة القوية، والعمل المدروس الممنهج، والتشارك الإقليمي الجاد، هو أشد ما نحتاجه، وخاصة الاستثمار القريب والبعيد المدى في الشباب، والأطفال، وهذا بالفعل ما أرغب في تسليط الضوء عليه في هذا اليوم، “اليوم العالمي للاتصالات ومجتمع المعلومات”، الذي يصادف السابع عشر من أيار/مايو، خاصة أنه يأتي هذا العام في اليوم التالي لانطلاق فعاليات احتفالية” الكويت عاصمة الشباب العربي 2017″، التي تخطط لتعزيز الهوية العربية، آملين أن يكون مناسبة لحث الشباب العربي على القيام بالمزيد من الجهود على طريق بناء وتعزيز المحتوى الرقمي العربي، وجسر الهوة الرقمية.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً