على مدى عشرة سنوات عصيبة تدخلت دول الشرق الأوسط العربية على نطاق واسع لإدارة الصراع الليبي، وأوجدت لها وكلاء محليين يمثلونها مقابل الدعم بالمال الفاسد والمزور الليبي، ومن أهم مراكز صنع القرار التي أصبحت عميلة لدول المشارقة مجلس النواب المخطوف والذي أصبح رهينة لتلك الدول من خلال رئيس مجلسها وثلة من أعضائها. عندما تعالت حناجر الجماهير بإسقاط البرلمان ليس ذلك من أجل طمس الموميات المحنطة والديناصورات التي لا تريد ان تزول من المشهد، بل يعني ذلك القطيعة مع الفكر المتخلف القادم من دول المشارقة ورموزه وعملائه ووكلائه المحليين على مدى قرون عديدة.
منذ وصول عقبة بن نافع الأراضي الليبية، أصبحت ليبيا والدول المغاربية رهينة للاعقلانية المشارقة؛ باسم الدين تارة وباسم القومية تارة أخرى، كان السبي والرق وجمع الأموال بالباطل بل والطاغوت والتجبر، دفع ثمنه ستة عشر أميرا أمويا فقدو حياتهم على هذه الأرض، والدين براء من تلك الأفكار العرقية البغيضة.
في نهاية القرن الثامن عشر بعث الشيخ محمد بن عبدالوهاب رسالة إلى الكثير من الأقطار الإسلامية يدعوهم ويطالبهم باتباعه والولاء له ومن خالفه فمشرك وجبت استثابة، وكان من أهم الردود، تلك الصادرة من مفتي تونس عمر المحجوب (المتوفي في أبريل 1807) كان ردا قانعا مانعا أوقف تمدد الوهابية إلى شمال أفريقيا.
في الأربعينات من القرن الماضي وبعد سقوط الخلافة استشعرت النخبة في الدول المغاربية وخاصة الجزائر منها بأهمية إيجاد تكتل مغاربي يتبنى قيم العصر، وكان من هؤلاء الأستاذ على الحامي الذي كان ينادي ببعث نهج مغاربي منفتح ومتطور مناظراً لنهج الدولة الاندلسية وفيلسوفها الفذ ابن رشد، حضارة تنبع من صميم الدول المغاربية.
للأسف لم يحدث ذلك وتم معارضته من بني جلدته بسبب تداخل الدين مع السياسة من ناحية، والمناداة بالهوية القومية العربية في ذلك الوقت، وكان جلهم من المسيحيين العرب مثل ميشيل عفلق وجورجي زيدان وقسطنين زريق. وكانت النتيجة إنقلاب 23 يوليو 1951 وما تلاه من انقلابات في سوريا والعراق واليمن والجزائر وليبيا وتوجه قومي عروبي في تونس والمغرب، مع نشر ثقافة التطبيل والتصفيق للاستبداد لأكثر من ستة عقود.
هذا التغيير العسكري أوقف عجلة الحياة بتركيزه على بناء اقتصاد ريعي يقوم بتوزيع الثروات بدل أن يكون نظاماً منتجاً للثروة، فكان الفقر والتخلف واستنزاف الأموال في شراء السلاح الذي لم يمنع هزائم كثيرة امام إسرائيل في السنوات 47 ثم 56 ثم المدوية سنة 67 ثم حرب التحريك في 73، والحروب البينية في اليمن 64 وفي العراق 93 وحرب غزة 2006 وأخيرا تكوين الدولة الإسلامية داعش في قلب الشرق الأوسط في السنوات 2014 إلى 2017.
الاعقلانية في فكر المشارقة تتجلى في تكوين فكر الصحوة الذي تحول إلى الفكر الجهادي بشتى أنواعه وجر ألاف الشباب من الدول المغاربية إلى قندهار وجبال طورابورا بأفغانستان من أجل دعم الدولة الإسلامية المفقودة، واستمرت الفتاوي اللاعقلانية لدعم داعش التي نمت في أحضان الفكر السلفي الجهادي وتم تمويلها من رجال المال من أهل السنة بالشرق الأوسط، ودعموها بأبناء الفقراء من خلال خطة إعلامية ممنهجة، وفتحوا لها شبكة من التمويل الدولي حتى وصلت في حربها إلى تخوم بغداد واستولت على نصف سوريا، ولم تسقط بغداد إلا بفعل التدخل الأمريكي.
بعد قيام ثورات 2011 م التي كانت بريق أمل للتخلص من عقود الاستبداد، ثم إفساد الحياة السياسية بتجنيد العملاء؛ ففي ليبيا كان انتخاب المؤتمر الوطني شفافا وواعدا، وبالمثل في تونس ومصر وهو ما يهدد مستقبل الامراء والملوك كمثال موعود للدولة الحديثة، فشمرت دول الخليج على سواعدها لإفساد تلك التجارب؛ تم تدعيم العسكر في مصر وقلب النظام وتم دعم حفتر في ليبيا بالسلاح والأموال والمرتزقة بل وحتى بالقواعد الجوية للقضاء على أي أمل في التغيير، وجندوا الثلث المعطل في البرلمان وشخصيات قبلية على رأسها رئيس مجلس النواب لإفساد الحياة السياسية وإهدار أموال الدولة. أما في الجزائر فعملوا على عودة الحرس القديم إلى الواجهة في انتخابات صورية قاطعها الكثير من الجزائريين، بالمثل في تونس عملوا على تشتيت وانقسام الأحزاب الكبرى وإنشاء أحزاب يتجاوز عددها ستون حزبا وأوصلوا وكلائهم مثل عبير موسى إلى قبة البرلمان بطريقة شعبوية وعطلوا مؤسسات اتخاذ القرار حتى سئم الشعب سوء الحياة الاقتصادية، وجعلوا الرئيس المنتخب مطية للتخلص من التجربة الديموقراطية.
هذه اللاعقلانية لها جذور في الثقافة العربية والتراث الإسلامي الذي انحرف عن الدين القويم بعد وصول بني أمية الى الحكم، لاعقلانية بُنيت على تحكم الأمراء والملوك في مقاليد البشر ومعاملة شعوبها معاملة العبيد، أما حليا فإن دول الخليج وضعت إتفاق مقايضة بين الحاكمين والمحكومين بأن يكون للأسر الحاكمة الجاه والسلطان، ولرجال الدين الدعم للسلطان مقابل المكانة المقربة، وللشعب توفير الحاجات الضرورية الأساسية؛ إما سابقا بالتحالف مع القوى العظمى من أجل التمويل أو حديثا ببيع النفط.
يتساءل المرء لماذا هذا الهوان وتبعية الدول المغاربية للشرق الوسط، رغم الفارق الكبير في وجود الكفاءات والامكانيات؟ ولماذا استطاعت إيران وتركيا الخروج من هذا البعبع ولم تستطيع الحكومات المغاربية؟.
تعامل إيران مع المكون العربي كان له سمة خاصة على مر التاريخ، ففي القرن الثاني للهجرة أسست إيران الدولة العباسية على أنقاد الدولة العربية الاموية وأدخلت كل الطوائف والأعراق في ثلاث قارات تحت كيانها؛ وبسبب الإسلام تبنت العربية لغة لها لكنها صاغت حكمها بعادات وتقاليد وثقافة وأسلوب حياة الفرس، وهو ما جعل المفكر محمد جابر العابد في كتابه نقد العقل العربي يؤكد أن من أهم روافد الثقافة العربية الحديثة التأثير الفارسي في طريقة الحكم. الدولة العباسية شملت الجزيرة العربية وشمال أفريقيا ووسط أسيا وشرق أسيا وجزء من أوروبا، مما جعلها تبدع في العلوم والفلسفة والأدب، ومعظم هذه الشعوب نطقت بالعربية ولكنها لم يتم تعريبها كأمة، أي اللغة استخدمت كأذاة تواصل، خلاف ما حدث في شمال أفريقيا. فكانت إيران دائما لها شخصيتها المنفصلة عن الشخصية العربية رغم أن الدراسات الحديثة تؤكد أن أكثر من 50% من الإيرانيين يعودون إلى السلالة العربية وهو أكبر بكثير من كل الدول العربية عدا السعودية.
في العصر الحديث قطعت إيران علاقاتها مع السعودية عدة مرات، أولها عام 1943م عندما أعدمت السعودية إحدى الحجاج الإيرانيين ، ثم عادت سنة 1946م. وانقطعت العلاقات في سنة 1987م عندما لقي 400 حاج إيراني مصرعهم في أحداث مكة، وعادت سنة 1991م. وأخيرا قطعت العلاقات سنة 2016م.
إيران لها شيعة في قلب دول الخليج، ففي السعودية يمثلون 20% من السكان، معظمهم في القطيف والإحساء والدمام والمدينة، ولها أغلبية في البحرين وعدد كبير في الكويت، كما أنها لم تتأخر عن استرداد جزرها الثلاث المتنازع عليها مع الإمارات منذ 1972م. كما أنها استطاعت أن يكون لها قاعدة سياسية وشعبية موالية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما جعل دول الخليج تحت خناق السياسات الإيرانية من كل جانب، ولقد سبب انسحاب أمريكيا من أفغانستان ذعرا كبيرا ورسالة واضحة مفادها أن أمريكا لها مصالح وليس لها أصدقاء يمكن لهم التعويل عليها، الأمر الذي سيجعل دول الخليج تهرول وراء رضاء إيران بعد سنوات من التعنت وحبك الدسائس وتمويل الحروب.
تعتبر المغرب أكثر عقلانية في التعامل من المشارقة، فالملك الحسن كان دائما يقول أن أوروبا شجرة جذورها في المغرب، وحاليا للمغرب توجه افريقي كبير بعد فشل المحاولات الكثيرة لإعادة العلاقات مع الجزائر، وهذه الخلافات البينية بين الدول المغاربية تمثل العائق الرئيس لتوحيد الصفوف في مجموعة واحدة لها إمكانيات جبارة وموقع استراتيجي فريد، وحتى تتغير الحكومات في الدول المغاربية وتلبي مطالب الجماهير في التعاون المشترك على أسس التضامن ولتأزر والمصلحة العامة للجميع، يبقى تدخل المشارقة ولاعقلانيتهم مفتوحا على مصرعيه بلا رادع ولا سياسات حكيمة لها مفعول ومغزى.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً