تناولنا في مقال سابق الهجرة النبوية المباركة، وما فيها من دروس وعبر، وسنتناول في هذا المقال ما يتعلق بأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ من جوانب هذه الهجرة المباركة، ويمكن القول إنَّ حادثة هجرة الصِّدِّيق مع رسول الله فيها الكثير من الدروس، والعِبر، منها:
أولاً: قال تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *} [التوبة: 40].
ففي هذه الآية الكريمة دلالةٌ على أفضلية الصِّدِّيق من سبعة أوجه، ففي الآية الكريمة من فضائل أبي بكرٍ رضي الله عنه:
1ـ أنَّ الكفار أخرجوه:
الكفار أخرجوا الرسول (ثاني اثنين) فلزم أن يكونوا أخرجوهما، وهذا هو الواقع.
2ـ أنَّه صاحبه الوحيد:
الذي كان معه حين نصره الله؛ إذ أخرجه الذين كفروا هو وأبو بكر، وكان ثاني اثنين، الله ثالثهما. قوله: ففي المواضع التي لا يكون مع النبيِّ {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} من أكابر الصَّحابة إلا واحدٌ يكون هو ذلك الواحد مثل سفره في الهجرة، ومقامه يوم بدرٍ في العريش لم يكن معه فيه إلا أبو بكر، ومثل خروجه إلى قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام كان يكون معه من أكابر الصَّحابة أبو بكر، وهذا اختصاصٌ في الصُّحبة لم يكن لغيره باتِّفاق أهل المعرفة بأحوال النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
3ـ أنَّه صاحبه في الغار:
الفضيلة في الغار ظاهرةٌ بنصِّ القران، وقد جاء في الصحيحين من حديث أنسٍ، عن أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله! لو أنَّ أحدهم نظر إلى قدميه؛ لأبصرنا. فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر! ما ظنُّك باثنين اللهُ ثالثُهما». وهذا الحديث مع كونه ممّا اتفق أهل العلم على صحَّته، وتلقِّيه بالقَبُول، فلم يختلف في ذلك اثنان منهم؛ فهو ممّا دلَّ القرآن على معناه.
4ـ أنَّه صاحبه المطلق:
قوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ}، لا يختص بمصاحبته في الغار فقط، بل هو صاحبه المطلق.
5ـ أنَّه المشفق عليه:
قوله: {لاَ تَحْزَنْ}، يدلُّ على أنَّ صاحبه كان مشفقاً عليه محبّاً ناصراً له، وإنَّما يحزن الإنسان حال الخوف على مَنْ يحبه، وكان حزنه على النبيِّ صلى الله عليه وسلم لئلاّ يقتل، ويذهب الإسلام، ولهذا لمّا كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارةً، ووراءه تارةً، فسأله النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: أذكر الرَّصد فأكون أمامك، وأذكر الطَّلب فأكون وراءك. قال: فلما انتهينا إلى الغار قال أبو بكر: يا رسول الله! كما أنت حتّى أقمَّه.. فلمّا رأى أبو بكر جحراً في الغار، فألقمها قدمه، وقال: يا رسول الله! إن كانت لسعةً، أو لدغةً كانت بي. فلم يكن يرضى بمساواة النبيِّ، بل كان لا يرضى بأن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يعيش، بل كان يختار أن يفديه بنفسه، وأهله، وماله. وهذا واجب على كلِّ مؤمن، والصِّدِّيق أقوم المؤمنين بذلك.
6ـ المشارك له في معيَّة الاختصاص:
قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، صريحٌ في مشاركة الصدِّيق للنبيِّ في هذه المعيَّة، التي اختصَّ بها الصِّدِّيق لم يشركه فيها أحدٌ من الخلق.. وهي تدلُّ على أنَّه معهما بالنَّصر، والتأييد، والإعانة على عدوِّهما ـ فيكون النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد أخبر: أنَّ الله ينصرني، وينصرك يا أبا بكر! ويعيننا عليهم، نصر إكرامٍ ومحبةٍ، كما قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ *} [غافر: 51]. وهذا غاية المدح لأبي بكرٍ؛ إذ دلَّ على أنَّه ممن شهد له الرسول بالإيمان المقتضي نصر الله له مع رسوله في مثل هذه الحال التي يخذل فيها عامَّة الخلق إلا مَنْ نصره الله.
وقال الدكتور عبد الكريم زيدان عن المعيَّة في هذه الآية الكريمة: وهذه المعيَّة الربَّانيَّة المستفادة من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، أعلى من معيَّته والمحسنين في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *} [النحل: 128] لأنَّ المعيَّة هنا لذات الرَّسول، وذات صاحبه، غير مقيَّدة بوصفٍ هو عملٌ لهما، كوصف التَّقوى، والإحسان، بل هي خاصَّةٌ برسوله، وصاحبه، مكفولةٌ هذه المعيَّة بالتأييد بالآيات، وخوارق العادات.
ثانياً: جندية الصِّدِّيق الرَّفيعة، وبكاؤه من الفرح:
يظهر أثر التَّربية النبويَّة في جندية أبي بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ فعندما أراد أن يهاجر إلى المدينة، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعجل لعلَّ الله يجعل لك صاحباً». بدأ في الإعداد، والتَّخطيط للهجرة ففي رواية للبخاريِّ: «وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السَّمر ـ وهو الخبط ـ أربعة أشهر»، لقد كان يدرك بثاقب بصره ـ رضي الله عنه ـ وهو الذي تربَّى ليكون قائداً، أنَّ لحظة الهجرة صعبةٌ قد تأتي فجأةً، ولذلك هيَّأ وسيلة الهجرة، ورتَّب تموينها، وسخَّر أسرته لخدمة النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وتظهر معاني الحبِّ في الله في خوف أبي بكرٍ وهو في الغار من أن يراهما المشركون، ليكون الصِّدِّيق مثلاً لما ينبغي أن يكون عليه جنديُّ الدعوة الصَّادق مع قائده الأمين، حين يحدق به الخطر من خوفٍ، وإشفاقٍ على حياته، فما كان أبو بكرٍ ساعتئذٍ بالذي يخشى على نفسه الموت، ولو كان كذلك لما رافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الهجرة الخطيرة وهو يعلم: أنَّ أقلَّ جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنَّه كان يخشى على حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وعلى مستقبل الإسلام، إن وقع الرسول صلى الله عليه وسلم في قبضة المشركين.
ويظهر الحسُّ الأمنيُّ الرَّفيع للصدِّيق في هجرته مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرةٍ؛ منها حين أجاب السَّائل: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فقال: هذا هادٍ يهديني السَّبيل، فظنَّ السَّائل بأنَّ الصِّدِّيق يقصد الطَّريق، وإنَّما كان يقصد سبيل الخير، وهذا يدلُّ على حسن استخدام أبي بكرٍ للمعاريض فراراً من الحرج، أو الكذب. وفي إجابته للسَّائل توريةٌ، وتنفيذٌ للتربية الأمنيَّة التي تلقَّاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ الهجرة كانت سرّاً، وقد أقرَّه الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك.
ثالثاً: مرض أبي بكرٍ الصِّدِّيق بالمدينة في بداية الهجرة:
كانت هجرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البلد الأمين تضحيةً عظيمةً، عبَّر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «والله إنَّك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله! ولولا أنِّي أُخرجتُ منكِ ما خرجتُ».
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: لمّا قدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها، وهي أوبأ أرض الله من الحمّى، وكان واديها يجري نجلاً ـ يعني ماءً آجناً ـ فأصاب أصحابَه منها بلاءٌ، وسقمٌ، وصرف الله ذلك عن نبيِّه. قالت: فكان أبو بكرٍ وعامر بن فهيرة وبلالٌ في بيتٍ واحدٍ، فأصابتهم الحمّى، فاستأذنتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم، فأذن، فدخلت إليهم أعودهم، وذلك قبل أن يُضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدَّة الوعك، فدنوت من أبي بكرٍ، فقلت: يا أبتِ ! كيف تجدك؟ فقال:
كلُّ أمرئ مصبِّحٌ في أهله والموت أدنى منْ شراكِ نعلِهِ
قالت: فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول. ثمَّ دنوتُ من عامر بن فهيرة، فقلت: كيف تجدك يا عامر؟! فقال:
لقد وجدتُ الموتَ قبل ذوقه إنَّ الجبان حتفُهُ مِنْ فوقه
قالت: قلت: والله ما يدري عامر ما يقول! قالت: وكان بلال إذا أقلع عنه الحمّى؛ اضطجع بفناء البيت، ثم يرفع عقيرته، ويقول:
ألا ليتَ شعري هل أبيتنَّ ليلةً بوادٍ وحولي إذخرٌ وجليلُ
وهل أرِدَنْ يوماً مياه مَجَنَّةٍ وهل يبدون لي شامة وطفيل
قالت: فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلينا المدينة، كحبِّنا مكَّة أو أشدَّ! اللَّهُمَّ وصحِّحها، وبارك لنا في مُدِّها، وصاعِها، وانقل حمّاها، واجعلها بالجُحْفَة!» .
وقد استجاب الله دعاء نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وعوفي المسلمون بعدها من هذه الحمّى، وغدت المدينة موطناً ممتازاً لكلِّ الوافدين، والمهاجرين إليها من المسلمين، وعلى تنوُّع بيئاتهم، ومواطنهم.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
نسى ان يقول لكم هذا المنافق ان السورة التي بداء بها مكتوبه هذا…تم اضافتها الى القران بدون شهود…يعنى رجل واحد قال سمعتها من رسول الله ولم يسمعها احد غيره…وهى كذلك السورة الوحيدة في القران التي لم تبدأ باسم الله الرحمن الرحيم…وسلامتها ام حسن