الشرق الأوسط ليس مسمى جامد، هامد لا حراك فيه، بل كما أسلفنا، كيان حي فاعلا ومنفعلا بفضائه الإقليمي والدولي، فقد شاهده الجميع ومنذ انطلاق انتفاضات 2011م، ومع جميع مراحل حراكها وحتى يومنا هذا، شاهد الجميع جل مفردات هذا الكيان الجيوسياسية، وهي تتدافع إلى داخل الوعاء الجغرافي الليبي، لتتخندق وتصطف حدو النعل للنعل مع الطرف المضاد، التي جاءت الانتفاضة بليبيا لتعمل وتجتهد بهدف خلق وبعث بديل عنه، ليقوم بإدارة وتصريف الشأن الليبي العام، على نحو مسئول وجاد تجاه البلاد ومواطنيها ومواردها الطبيعية والبشرية وموقعها الجغرافي الهام داخل فضائها الإقليمي والدولي، في عمل وحراك داخلي محلي وطني وليس غير ذلك، عبر الرغبة في التأسيس لحوّكمة رشيدة، تتولى العمل على تقعيد بُنى تحتية خدمية إنمائية تنموية، تكون وتُشكل من مخرجاتها، مُدخل لحياة سلسة لليبيا والليبيين، بديلة عن البؤس الذي عصف بهم وبجميع أركان حياتهم المادية والمعنوية، خلال العقود الماضية.
ولكن كيف تمكنت هذه الترتيبات الدولية، التي تمخضت عن هذا الكيان، أن تستمر ومن تحت جلباب الشرق الأوسط، وأن تحافظ على ديمومة بقائها على وجه الحياة، وبهذه الحيوية العالية على امتداد هذا العمر الطويل، الذي قارب قفل قرن من الزمان، رغم الحروب التي تخطت العشرة في تعدادها، والقلاقل واللاستقرار، الذي عصف بهذا الفضاء على امتداد هذه العقود والسنين الطويلة، ما ينتج عن كل هذه المأسي، من تبعات وارتدادات سالبة على حياة الناس في المحلي والإقليمي والدولي في هذه الجغرافية البائسة أم إن في وجود هذه البيئة الموبوءة كل المقومات التي يحتاجها كيان الشرق الأوسط للاستمرار فاعلا داخل مشهد الأحداث في فضائه الإقليمي والدولي، وإذا كان ذلك كذلك، فمن أين جاء هذا الكيان بالآلية التي تمكن بها من خلق وبعث هذه البيئة، والمحافظة على ديمومة إنتاجها التي بها استمرار بقائه فاعلا على وجه الحياة.
أحد الأبحاث تقول بأن كيان الشرق الأوسط تمكن من خلق توليفة مُركبة مما بين يديه من ديمغرافي، ثقافي، إثني عرقي، إلخ.. التقط هذه المكونات من وعاءه الجغرافي الذي يتمدد ويتسع ليشمل كل اليابسة لضفة شرق المتوسط وضفته الجنوب أيضا، وشكل من جملة هذه المكونات، بعدما دمّجها في تفاعل وتدافع وصراع دمغرافي ثقافي جغرافي على ساحة باتساع فضاء شرق وجنوب المتوسط، ومن ثم حمّل هذا التدافع الخشن المشبع بالدم مُسمى قضية الشرق الأوسط، وأحيانا تعامل معه تحت عنوان مشكلة الشرق الأوسط وفي مرة أخرى تحت مسمى الصراع العربي الإسرائيلي، وصار هذا الصراع يُغدى ذاته بذاته، فخلق بذلك خزان ومخزون لا ينضب من الطاقة، التي يحتاجها كيانه – كيان الشرق الأوسط – لإدامة استمرار بقائه فاعلا في حياة فضائه الإقليمي والدولي.
ولهذا كانت كل المحاولات الجادة لاحتواء هذا الصراع ومعالجته تصطدم بكيان الشرق الأوسط، وما تلبت أن تتهاوى هذه الجهود وتذهب إلى العدم، وبقول آخر، لقد كان في كل المحاولات الجادة لاحتواء مشكلة الشرق الأوسط، خطوة في اتجاه تفكيك الصراع بشرق وجنوب المتوسط، وفي هذا الصراع تكمن الطاقة المغذية لكيان الشرق الأوسط، فديمومة واستمرار الصراع من أحد الاشتراطات الأساسية لديمومة واستمرار حياة هذا الكيان، ولهذا عندما ذهبت مصر عبد الناصر وبذارعها العسكري في اتجاه مشاغلة مشكلة الشرق الأوسط، تحت مسمى الصراع العربي الإسرائيلي، اعترضها كيان الشرق الأوسط ببعّديه الإقليمي والدولي، وعندما عجزت عسكريا، وتحولت عبر (مشروع روجز) إلى طاولة التفاوض، لم يمهلها هذا الكيان وضيق عليها، فتفككت مصر عبد الناصر، وانتهت بقتل عبد الناصر مسمما، وتلى ذلك وبخطوات أكثر نضجا، مرحلة مصر السادات، فشاغل مشكل الشرق الأوسط، على نحو مزدوج بذراع عسكري أولا، ليحجز به كرسي مريح على طاولة التفاوض، ومن ثم أدار الصراع التفاوضي على نحو منتج، فاستعادت به ما فقدته مصر من أراضي، وأسست هذه الخطوة أيضا، واجتهدت لتضع ما للفلسطينيين في ما بين يديهم، وليس في *يد اليمين الفلسطيني أو اليسار الفلسطيني أو الرجعي الفلسطيني أو القومي الفلسطيني إلخ.. بل بين يدي الوطني، المحلي، الداخلي الفلسطيني، ليتولى إدارت وتصّريف شأنه محليا وإقليميا ودولياً، كيفما شاءوا وبما يتوافق مع قدراته واستعداداته، فاعترض كيان الشرق الأوسط وللمرة الثانية طريق مصر السادات، وجاءت هذه المرة باغتياله بواسطة أحد كوادر المنظومة العميقة لكيان الشرق الأوسط، ولم ينتظر (عرفات) طويلا، وتلقف ما انتهت إليه مصر السادات، وعالجه وبلوره برفقة (رابين) تحت مسمى (أريحا أولا)، واعترض كيان الشرق الأوسط مرة أخرى طريق عرفات – رابين، فاغتال الأخير بيد أحد كوادر المنظومة العميقة المتنوعة الإثنيات والأعراق لكيان الشرق الأوسط، وحاصر عرفات بمبنى المقاطعة، ومن ثم أنهى حياته بمرض غامض في أحد مشافي فرنسا بباريس.
فالشرق الأوسط كيان بيده كل الخيوط التي كانت بها ولازالت تُرّسم الوقائع والأحداث منذ قرابة قرن من الزمان على رقعة الفضاء الجغرافي لشرق وجنوب حوض المتوسط، ولكن كل هذا لا يتم إلا بإيعاز وإشراف عرّابه البريطاني، الذي كان في مرتبة القابلة، التي جاء هذا الكيان وعلى يديّها إلى الوجود، إثر الحرب العالمية الأولى، من خلال ترتيبات الدولية صِيغت تحت مسمى سايس – بيكو، ومن الشواهد الماثلة أمامنا في وقتنا الحاضر على كل ما سبق، تظهر وبوضوح وعلى نحو فاقع، في تدخلات السفارة الإنجليرية بليبيا، بما لا يتوافق مع مصلحة ليبيا والليبيين، وبما يصب في مصلحة صنيعتها كيان الشرق الأوسط، في تسفيه صارخ لمسعى الليبيون نحو رفع البؤس بوجّهه المادي والمعنوي عن واقع حياتهم الصعب والذي صار يُطاول بعبثه تضيق وضغط مساحة الضروري منها.
فمقاربة تأزم الواقع الليبي بتعقيداته بعيدا عن ما جاء سلفا، سينتهي إلى إدارة التأزم لا إلى تفكيكه، والعلاج – في تقديري – يكمن في تحيّد التدخلات السرية والعلنية لدولة إنجلترا بريطانيا في ليبيا، وبما يقوم به طاقمها الدبلوماسي والأمني بطرابلس، عبر التظاهر في ميادين وشوارع طرابلس تحديدا، لأنها عاصمة البلاد وبها كل مقرات وسائل الإعلام المحلية والخارجية، وبذلك تكون الشاشة الوحيدة، التي ينعكس عليها وتعكس الواقع الليبي أمام أنظار العالم، وبمساندة عمل موازي داخل عاصمة عرّاب الشرق الأوسط، للاحتجاج هناك في ميادينها وشوارعها على نحو جماعي ومُنفرد، كما فعل الجزائريون أثناء احتجاجهم على (فرنسا-ديغول)، معبرين عن غضبهم على نحو جماعي ومُنفرد في شوارع باريس وميادينها، وعلى ما تقوم به من سلوك رجيم، تجاه الجزائر وحياة الجزائريين بأياديها وأيادي مع عُرف بالحركي الجزائري، انتهى.
*هؤلاء ليسوا سوى عصاة ابتزاز مادي ومعنوي في يد كيان الشرق الأوسط، يهزها وقت الحاجة، في وجه النظم الوظيفية، التب تغطب الفضاء الجغرافب لشرق وجنوب حوض المتوسط.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً