لكل مجموعة بشرية طبيعة وتاريخ وواقع معاش تتأثر بمحيطها، ولذلك ليس من السهل فهم طبيعة شخصية أي مجتمع إلا من خلال دراسة العديد من الجوانب المهمة، منها المعقدة وأخرى متعددة ومتشابكة ومليئة بالمواقف والمشاهد والأحداث التاريخية والجغرافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية، وظروف أخرى تتعلق بالأوضاع المحيطة والبيئة المعاشة، ولفهم الشخصية الليبية لابد من مراجعة تاريخية لنشأة المجتمع الليبي من حيث مكوناته وظروفه التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية أيضاً.
إذا أخذنا بفرضية دكتور وناس المتمحورة حول (الشخصية الليبية في القبيلة والغنيمة والغلبة) فإن منطلقات هذه الفرضية تدعم حقيقة عدم توازن الشخصية الليبية نتيجة لتضارب تلك المفاهيم، وما صاحب هذه الشخصية من مظاهر سلوكية سلبية لم تتخلص منها عبر عقود طويلة من الزمن، وزادت تجدراً نتيجة التشبث بالبداوة التي يغلب عليها طابع التحرر من القيود الإدارية والقانونية والأمنية، وغياب الرؤية الاستراتيجية أو العلمية لمواكبة التطورات السريعة في عالم السياسة والأمن والاقتصاد والاجتماع، وهذا بالتالي يفسر ضعف القدرة على المشاركة في البناء والتنمية واستشراف المستقبل.
وفي اعتقادي هذا ما تعاني منه الشخصية الليبية من خلال الواقع المعاش ومن خلال التجارب السابقة والأحداث الأليمة الجارية، ما يفسر جلياً ظاهرة الانقسامات السياسية التي يشوبها الغموض والتعقيد والارتباك وعدم الثقة في الآخر، بل نستطيع القول أن السلوك الفردي والجماعي في اطار الشخصية الليبية تاريخياً يغلب عليه طابع الأنانية الاجتماعية وطغيان نزعة القبيلة على قيم الدولة.
إذا سلمنا أن الشخصية الليبية تقوقعت في دائرة قيم (القبيلة – والغنيمة – والغلبة – والفزعة) فلابد أن نشير إلى أسباب تشبث الشخصية الليبية بهذه المفاهيم والسلوكيات وفهم الدوافع التي حدت من سرعة تطور الشخصية الليبية ووضعها في قوالب حضارية رغم الأحداث والمعاناة، ورغم تسارع وتيرة التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأمني، علاوة على ذلك التسارع الدراماتيكي في حركة التطور المعرفي والفكري والثقافي الذي شهده العالم المعاصر إلا إن الشخصية الليبية لم تتكيف وتنصهر مع تلك المعطيات وشاب كيانها درجة من الغموض والجمود.
تناولت بعض الدراسات تحليل الشخصية الليبية أهمها دراسة للدكتور “وناس” الذي بلور في تفسيره وتحليله للشخصية الليبية عوامل ثلاثة لتفسير السلوك والشخصية الليبية، هي ثالوث “القبيلة والغنيمة والغلبة ولإيثار”.
أما المرحوم عبد الحميد البكوش 1996م، فقد حصر تحليله للشخصية الليبية في عامل “الانتماء”، ولكنه لم يحدد كيفية ووجهة الانتماء، ولم يربط بين الارتباط التكويني للانتماء المكاني والانتماء البشري، وفي السياق ذاته، هناك دراسات تناولت الهوية الوطنية دون التركيز على الشخصية الليبية التي هي أساس الهوية الوطنية والأساس لبناء الدولة واستقرارها ونموها وتنميتها وأمنها والدفاع عن مقدراتها.
ولما كانت الشخصية الليبية تفتقد في اعتقادي إلى الاستقرار وعدم توازن مفاهيم الهوية والانتماء والحقوق والواجبات التي تعتبر من اهم مقومات الموطنة.
ونتيجة للظروف التي مرت بها ليبيا عبر التاريخ وبمراحله غير المستقرة وغير الآمنة التي بلورت الشخصية الليبية في قالب يعوزه الشعور بالسلم الاجتماعي والثقة في الآخرين، ويتضح ذلك جلياً في التشبث بالقبيلة والمغالبة في غياب قيم ومفاهيم الحقوق والواجبات الوطنية، وفي غياب العدالة الاجتماعية وتغليب السلوكيات والأدبيات القبلية والمناطقية والجهوية، الأمر الذي أسس لحالة من الفوضى وتقييد قيام الدولة الوطنية المدنية.
وعلى الرغم من تأصيل الشخصية الوطنية عبر مراحل مؤرخة من تاريخ ليبيا حول قضايا عليا مثل الكفاح والنضال وتحرير ليبيا من الاستعمار واشتراك اطياف المجتمع وتشاركهم لقيم واهداف تحررية وبنوية اهمها الاستقلال وبناء الدستور وتأسيس قواعد وملامح الدولة الليبية، لعلها كانت قيم مشرفة تبنتها الشخصية الليبية الا أنها سرعان ما سيطرت قيم وسلوكيات لها جذور وتفاسير ومرجعيات تاريخية قديمة قدم تنقلات الجماعات البشرية من مكان إلى آخر بحثاً عن الأمان والماء والغذاء والكساء فبرزت قيم القبيلة والمغالبة وعدم الثقة في الآخرين، الأمر الذي شتت جهود بناء الدولة المدنية الوطنية وأخر عوامل تهيئة المناخ الملائم لها، فحرمت الشخصية الليبية من فرص الارتقاء الحضاري لمستوى الفهم العميق لقيم الوطنية وحقوق وواجبات المواطنة، وإعلاء مبادئ القانون والعدالة والتعايش السلمى وتقديم مصالح الوطن العليا فوق مصالح الجميع.
إن شيوع قيم ومفهوم المغالبة والقبيلة على قيم ومفهوم الانتماء للوطن، وتقديم قيم ومفهوم الغنيمة على مفهوم العدالة الاجتماعية، عوامل اسهمت في بناء شخصية غير متزنة وغير مستقرة وليس لها ثقة في الآخرين، بالمقابل، من خلال قراءة معمقة لتاريخ ليبيا القديم والمعاصر، نلاحظ تردد الشخصية الليبية في قراراتها المتعلقة بالمسامحة والمصالحة والعدالة الانتقالية، وهي بطبيعة الحال ليست مطلقة، بل انها تحددت بفعل الظروف المعيشية والاوضاع السياسية والامنية غير المثالية التي شاعت في تلك الحقب من تاريخ ليبيا، وذلك يرجع أيضاً إلى غلبة قيم وسلوكيات ومفاهيم المغالبة والأنانية والقبلية، وفي غياب تام أو عدم القدرة على الاستيعاب أو الشعور بالمساواة والمشاركة والعدالة في الحقوق والواجبات، وإن كانت هناك محاولات للخروج من هذه الاشكاليات والسلوكيات والخروج من ثوب القبيلة والغنيمة والمغالبة، إلا أنه سرعان ما تطفوا تلك القيم الهدامة لقواعد وهياكل الدولة والممزقة للحمة الوطنية والنسيج الاجتماعي على محاولات الانتقال إلى مجتمع حضاري متماسك ومتعايش سلمياً يسوده قيم الدولة والمواطنة والعدالة ووحدة الاهداف نحو السيادة والاستقرار والتنمية والبناء، ولعل تلك المظاهر تسببت في تراكم السلبيات والتقلبات وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني والاقتصادي.
للأسف الشديد لازالت الشخصية الليبية متأثرة بعوامل يغلب عليها قيم ثالوث الجهل “القبيلة والغنيمة والمغالبة”، ويتضح ذلك جلياً في الصراعات السياسية الدائرة حالياً، ويمكننا مشاهدة ذلك في الممارسات السياسية والانقسامات والحروب الدائرة نتيجة المحاصصة غير العادلة والناتجة عن قيم متجذرة في الشخصية الليبية منهجها وممارساتها المتأسسة على قيم “القبيلة والغنيمة والمغالبة”، وبالنتيجة، يمكن تفسير تمترس الكثيرون في مناصبهم بسلاح ونفوذ قبائلهم وابناء عمومتهم وشركاء مصالحهم لعدم ثقتهم في نوايا الآخرين تجاههم أو لعدم ثقتهم في قدرة مؤسسات الدولة على تأمين حياتهم وبقائهم، فتمارس القبيلة وظيفة الدولة لتوفير الحماية وتنصيب وتأمين وضمان بقاء واستمرار ابنائهم واقاربهم في مواقعهم التي لا سلطان للقانون والدولة والضمير عليها، بقائهم في مناصب تحقق لهم ارضاء القبيلة وتعظيم الغنيمة في ضل غلبة النفود والسلاح، ومع غياب معايير الدولة والوطن للثواب والعقاب، استشرى الفساد في مؤسسات الدولة ومفاصلها، بسبب ممارسة قيم “الغنيمة” المتجذرة في العمق التاريخي للشخصية الليبية، وسيبقى الحال في تقديري على ما هو عليه، إن لم يتأزم ويزداد سوأً، إذا لم نتوصل إلى حل متغيرات معادلة العلاقة الحرجة لثالوث الجهل “الغنيمة، المغالبة، القبيلة”، وقلب الظروف والاوضاع لبناء نموذج عصري لثالوث البناء “مواطنة،، مصالحة،، عدالة ومصارحة”.
إن من مظاهر فشل الدولة عدم قدرتها على بسط سيطرتها وفرض سطوتها وسلطانها على مؤسساتها ومقدرات وثروات شعبها، وتهيئة المناخ المحفز على محاكاة قيم المغالبة والغنيمة والقبيلة مع الواقع والاوضاع الهشة في ليبيا، فاستقوى غانمي ثروات البلاد بسلاح ونفوذ قبائلهم وشكلوا مراكز قوى خارج دائرة فعل المترهلة، فسيطروا على مواقع الدولة وموانئها ومنافذها وخزائنها ومناطقها، بل سيطروا على مراكز وشخوص صنع واتخاذ القرار بغلبة وقوة الأقوياء وبسط نفوذهم وسطوتهم على الضعفاء والجبناء ممن ليس لهم للوطن انتماء أو ولاء، الأمر يتطلب إلى وقفة جادة في إطار التنمية السياسية وبناء الشخصية الليبية الوطنية، وهذا يحتاج الى دولة وطنية مدنية مستقرة يسودها القانون والعدالة الاجتماعية ، وتوزيع عادل للثروة، ودستور يحتكم إليه الشعب بعد تغييب قيم المغالبة والغنيمة والقبيلة.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً