الحرية والحيوية

الحرية والحيوية

فرج كُندي

كاتب وباحث ليبي، مدير مركز الكندي للدراسات والبحوث

لاحظ الفيلسوف ” بتراند راسل ” المأزق المعرفي الذي يُحوّل مفهوم الحرية إلى مفهوم عدواني بدلاً من مفهوم للتحرر بمعنى التخليص , وقرن ذلك بمعنى “الحرية والحيوية” حين لفت النظر إلى أن أهم قيم النهضة هي قيمتا “الحرية والحيوية” على انهما معنيان ساميان وقاتلان في آن معاً , ويأتي سموهما من كونهما الأداتين اللتين صنعتا وقامت عليهما أصول وقواعد النهضة الأوربية الحديثة , وبهما استيقظت أوربا من سباتها الطويل العميق الذي ران عليها طيلة القرون المظلمة في عصورها الوسطى, ودخلت بعدها في مرحلة عصور الازدهار والتقدم, والصعود الهرمي المتوثب في سرعة منقطعة النظير في سباق مع ساعة الزمن. باجتماع الركنين الاساسين في سلم النهضة  ” الحرية والحيوية ” الذين وفرا لها إمكانيات  عارمة مأهولة جعلتها تفيض على الحاجة الأوربية, لتجتاز الحدود المحلية.

بعد نجاح مشروعها النهضوي المادي الذي حرك أوربا خارج حدودها نحو القارات القديمة ” أفريقيا و أسيا ” ومكنها من انجاز مشروعها الكبير في حركة الكشوف الجغرافية  لتتحول هذه الحرية والحيوية  إلى نعمة وازدهار على كافة الاصعدة الحياتية للقارة ونقمة على الشعوب الأصلية في الأميركتين ولسكان أفريقيا وشرق اسيا.

من خلال مشروعها الاستعماري الاستيطاني استخدمت  الذي فيه قوتها العسكرية الجبارة مع قسوة مفرطة ادت إلى احتلال تلك المناطق واستغلال مواردها الطبيعية والبشرية بما يعود على اوربا بالرفاة والعيش الرغيد على حساب حرية وثروات تلك الشعوب التي تفتقر  إلى ركيزة الحرية والحيوية.

وبهذا يمكن ان نخلص إلى ان الحرية والحيوية ركيزتان اساسيتان لقيام النهضة المنشودة, وفي حال انعدام هذه الركائز فإن الامة سرعان ما تقع فريسة لغيرها من الأمم التي تعتمد على ركائز الحرية والحيوية , ونقيض الحرية والحيوية يكون الاستبداد والخمول وهما اسرع الوسائل للضعف والاضمحلال والتلاشي والفشل وذهاب الريح.

وهو ما عبر عنه المفكر الجزائري  مالك بن نبي في كتابه ميلاد مجتمع فقال:

إن ثروة الأفكار وحدها ليست بكافية؛ كما ولنا على ذلك في تاريخ المجتمع الإسلامي موقفين:

فعندما بدأ هذا المجتمع دخوله حلبة التاريخ في القرن السابع الميلادي كان “عالم افكاره ” مازال جنيناً غامضاً ؛ إذا ما قيس بالمجتمعات المتحضرة التي غزاها في مصر وفي فارس وفي الشام.

فإذا ما نظرنا إليه وقد أخذ بعد ذلك بستة قرون يترنح في مهاوي التدهور والانحطاط , وجدناه يملك أغنى مكتبات العالم آنذاك..!!

لقد انهار تحت ضربات شعوب حديثة العهد بالوجود , كالإسبانيين الذين كان عالم افكارهم لايزال فقيراً نسبياً , وبذلك نرى أن المكتبات لا تغني من الهزيمة شيئاً ) .

أي ان الأمم التي تتحلى بصفة الحيوية وإن كانت في بداياتها لديها القدرة على هزيمة الامم المترهلة وإن كانت تمتلك المعرفة والمقدرات المادية دون ان تكون جزء في حركتها اليومية الدؤوبة   ( وهذا ما فسره الأستاذ ” مالك بن نبي ” رحمه الله  (( إن الإرادة التي ستتصرف في توزيع تلك الطاقة الحيوية في مختلف النشاط الاجتماعي لدى الفرد , وبالتالي تتحكم في توزيع النشاط المشترك للجماعة )) فتنعكس تلك الإرادة على حركة المجتمع ونشاطه العام الذي يجلب الحرية والرفاه بفضل هذه الارادية الحرة الحية وهو رابط وثيق يفتح باب الابداع في المجتمع وفي حالة كبته أو التضييق عليه فسوف تكون النتائج عكسية وضارة (( لو اننا حرمنا الفرد حرية الاختيار فسنجعل منه ألة صماء, أو مخلوقاً صناعياً , أكثر من أن يكون كائنا إنسانياً يتصرف في طاقته الحيوية لغايات يلمحها ضميره لمحاً جلياً )) ولا تقوم النهضة الحقيقية إلا على القواعد الاساسية العامة التي تحيط به,  وتساهم بدايات اللحظات الاولى من  ميلاده (( إن نهضة أي مجتمع تتم في نفس الظروف العامة التي أحاطت بميلاده , وكذلك يخضع بناؤه , وإعادة هذا الأساس لنفس القانون, وهذا القانون هو الذي عبر عنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم { لا يصلح أخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها } )) ميلاد مجتمع, ص 69-70 ومن المسلم به حضارياً أن ما صلح به أول هذه الامة هو الحرية والحيوية التي انتجت اكبر واعظم حضارة بشرية عرفها التاريخ و(( نستطيع أن نشهد دور الدين في حيويته, وهو يحقق عمله الاجتماعي بطريقة غير مباشرة, أو غير أساسية حين يهدف إلى غايته الخاصة :- فالدين حين يخلق الشبكة الروحية التي تربط نفس المجتمع بالأيمان بالله , وهو يخلق بعمله هذا أيضاً شبكة العلاقات الاجتماعية التي تتيح لهذا المجتمع  أن يضطلع بمهمته الأرضية , وأن يؤدي نشاطه المشترك, وهو بذلك يربط أهداف السماء بضرورات الأرض )) ميلاد مجتمع, ص 73

وهذا ما تصوره ” توينبي ” في بناء الحضارة حين اعتبرها ( كائنا حيا مع تصوره لدفق الحياة في كيانها حسب نظريته الخاصة ”  التحدي  والاستجابة ” ) قراءة في فكر توينبي وفلسفته في الحضارة , المبروك الفتحلي ,  مجلة منتدى العلوم , العدد الثالث يونيو 2017م, ص 250

في حين اختصرها الدكتور محمد احمد الراشد في ( أن الحرية هي أقصر طرقنا إلى تحقيق أهدافنا ) منهجية التربية الدعوية, محمد أحمد الراشد , دار النشر والتوزيع ,كندا, سويسرا , ط1, 2002م, ص 286

وربطها برباط التلازم بين تفجر العلوم خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين ( إن العلم لم يتفجر ويتوسع خلال القرنين الأخيرين إلا بسبب الحريات وحفظ الحقوق ) الراشد, مرجع سابق, ص 287.

(ويرى نوينبي أن تحول المجتمعات البدائية إلى مجتمعات حضارية يعتمد على مدى الانتقال من حالة الجمود إلى الحالة الدينامية. وأن هذه القاعدة تصبح كذلك في عملية نشؤ الحضارات الأخرى وتعاقبها ) قراءة في فكر توينبي وفلسفته في الحضارة , المبروك الفتحلي, مجلة منتدى العلوم, العدد الثالث يونيو 2017م, ص 264

فيؤكد على  أن حركة الحضارات أو التاريخ :-  هي أقرب إلى أن تكون أشبه بعربة تصعد جبلا يقتضي صعودها حركة عجلاتها , وإذا كان الصعود تقدماً فليس المقصود الجانب المادي دون الروحي ) في فلسفة التاريخ, احمد مجمد صبحي, دار النهضة العربية للطباعة والنشر, بيروت, 1994م, ص 266.

وهو ما اكده الراشد في تأكيده المحدد بنسب وارقام محددة تؤكد على مدى الفوارق النسبية بين انواع الابداع وتهيئة الظروف المجتمعية والتربوية التي تساهم في رفع نسبته العامة في المجتمع أو الأمة ( وأنا أزعم بناء على خبرتي بالواقع  الفكري العالمي ومعاصرتي لثلاثة اجيال فكرية ودعوية وتربوية خلال ما يقارب من خمسين سنة . أن الإبداع الذاتي التلقائي في محيط الفكر لا يزيد على 3% في أعلى تقدير وهو عندي 1% فقط , لكن الإبداع الذاتي المرفود الذي تفجر كوامنه التربية قد يرتفع بالنسبة إلى 10% , وأما الإبداع غير الذاتي الذي تتولى التربية والإعداد فيه منهجية الاصطياد وإعادة الصياغة والتشكل فقد يرتفع إلى نسبة 30% أذا ساعدت الحريات العامة في البلد على تكوين ظروف ومناخات مساعدة, واتاحت الفرص أمام العمل المؤسسي تنتقل بالمعادلة الحيوية إلى حسم مفروغ منه لصالح المجتمع لا يحتاج غير مرور الزمن لتبدو أثاره في الواقع الملموس ) منهجية التربية الدعوية, محمد أحمد الراشد , دار النشر والتوزيع ,كندا, سويسرا , ط1, 2002م, ص 290, بتصرف

وبهذا يمكن القول أن النهضة لا يمكن أن تتحقق  إلا إذا أتيحت لها العوامل الاساسية العامة من حسن تخطيط ورغبه صادقة وتوفير مناخ عام وبيئة حاضنة مع توفير وتوجيه امكانيات مناسبة ومتناسبة مع المشروع , على أن يتوفر اهم ركنين وأشد ركيزتين يقف عليهما المشروع؛ الذي لن تقوم له قائمة بدنوهما, الا وهما توفر الرافد الاقوى الحرية و الظروف الملائمة لصناعة الحيوية.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

فرج كُندي

كاتب وباحث ليبي، مدير مركز الكندي للدراسات والبحوث

اترك تعليقاً