بلا أدنى شك فإن قوة الاعلام تفوق قوة السياسة، والقوة السياسية بلا ترسانة اعلامية تساندها هي قوة خائرة وزائلة لا محالة، ومصيرها السقوط والنسيان. وبحسب المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه “فإن الثورة الاعلامية هي ثورة سياسية، والعكس ليس صحيحاً، وبالاختصار لم تعد السياسة في مركز القيادة” بل الاعلام.
لذلك قل لي أي فضائية تشاهد أقل لك من أنت .!! لأن هذا هو زمن التحشيد والشحن الطائفي والمذهبي عبر الفضائيات ووسائل الاتصال وما عادت الشعوب إلا مجرد أفواه فاغرة وعقول معطلة وقطعان تساق للميادين كالأغنام… يحشد هذا ويحشد ذاك ويتفاخر كل فصيل بما جمعه في قطيعه السياسي. وانساننا العربي الذي أصبح دمه أرخص من دم الماشية، يذبح هذا قربانا لمرسي وذاك قرباناً للعسكر غير مأسوف عليهما..!
والاعلام العربي أصبح فيه الدم والقتل مادة للإثارة والتشويق ولاهم لفضائياتنا العربية الكبرى سوى العمل على دفع مزيد من القرابين البشرية وتأجيج مشاعر الثأر والانتقام والإقتتال بين أبناء البلد الواحد بل وبين أبناء الدين الواحد. وكأن هذه الفضائيات قد أسقطت من قواميسها وإلى الأبد خطاب المصالحة والتسامح واصلاح ذات البين والدعوة إلى الحوار الجاد والبناء ما بين كل الأطراف المتنازعة على السلطة..!! وربما لم تخلق إلا لأداء هذا الدور.
وتأثير وسائل الاعلام ليست حكراً على العوام بل وعلى من أدعى انتمائه للنخبة الواعية الفطنة أيضاً وفي هذا يشير الكاتب والمفكر الأمريكي والتر ليبمان ” (إن وسائل الإعلام “ربما” لا تنجح دائما في إبلاغ الجماهير كيف يفكرون (أي اتجاهاتهم) ولكنها تنجح دائما في إبلاغهم عما يجب أن يفكروا فيه). ويأتي تعليقه هذا ضمن ما يعرف في الاعلام، بنظرية Agenda- Setting Theory أو نظرية ترتيب الأولويات.
وعلى سبيل المثال فإنه عندما تصبح فوضى وحروب ما يسمى بـدول “الربيع العربي” وتبعاته في الواجهة وفي صدارة الأخبار والتغطية المباشرة في الفضائيات الرئيسية فلا أحد سيذكر ماذا يحدث بفلسطين المحتلة، ولا أحد سيعير اهتماماً لمذابح بورما … ولكن … لنبقى في مصر ولنترك الجارة اسرائيل آمنة مطمئنة حتى نرتوي من دماء بعضنا بعضا … وطالما الأجندة مصرية والحرب المستعرة هي اسلامية اسلامية وقد أرادت قنواتنا العربية الكبرى كالجزيرة والعربية وسكاي نيوز أن تكون “مصر” هي ساحة الاقتتال الدموي والاعلامي اليوم فعلينا أن لا نفكر بسواها، وليختار كل منا الفريق الذي يصفق له لقتل الآخر…!
وربما الجديد واللافت اعلامياً في الأزمة المصرية الحالية ما بين جماعة الإخوان المسلمين والجيش المصري بأن خلعت كل الأطراف الخليجية المتصارعة سياسياً واعلامياً أقنعة “الحياد والموضوعية”. فتظهر دولة قطر والجزيرة بلا مواربة أو تردد كداعم رئيسي لجماعة الإخوان المسلمين وقد أصبحت الجزيرة هي “التلفزيون الرسمي” لجماعة الإخوان المسلمين، بينما في المقابل تظهر كل من السعودية والامارات كداعمين قويين للجيش المصري عبر قناتي العربية وسكاي نيوز العربية. وفي الوقت الذي تصف الجزيرة فيه ما حدث في مصر عقب مظاهرات 30 يونيو بأنه (انقلاب عسكري على الشرعية) فإن كل من قناتي “العربية” السعودية و”سكاي نيوز” الاماراتية تصف ما حدث بأنه (ثورة) أو (الثورة الثانية) حسب توصيفهما.
لينقسم الشارع المصري بل العربي عموماً ما بين اسلاموي مؤيد لجماعة الإخوان فيلتصق بشاشة الجزيرة فاغـر الفاه والروح يلتهم كل ما تقدمه له الجزيرة عن طيب خاطر وقسم آخر من الشارع العربي مؤيد للسيسي والجيش المصري مناصباً العداء للجزيرة الإخوانية ليرتمي في أحضان قناتي العربية والسكاي نيوز ويصب اللعنات والشتائم على الفريق الاسلاموي المؤيد للجماعة والرئيس المعزول.
وما بين رابعة والتحرير يسجل التاريخ بأن أمة الإسلام قد تحولت إلى قطيع يدعي الثورة على الطغاة وكسر القيد في ربيع كانت أزهاره جتتث أبنائه الأبرياء … ولتستبدل الشعوب هروات البوليس في ازمنة الطغاة بهروات اعلام الخليج العربي يسوقهم أمراء وملوك النفط والغاز وحراس القواعد الأمريكية حيث يشاؤون…!
ألم يتساءل من تبقى من العقلاء: من المستفيذ من حمى الاستقطاب وحشر الملايين من البسطاء في الميادين وتأجيج الفوضى وهستيريا القــتـل الجـماعي وسلسلة الاغتيالات لقادة وأفراد الجيش والأمن في دول ما يسمى بـ “الربيع العربي”؟ ولماذا هذه الحرب المستعرة بين من يوصفون بـ “الاسلاميين” والجيوش العربية وكل هذا العداء والتحريض المتبادل على إبادة كل طرف للطرف الآخر؟
السعودية وقطر والإمارات … هل هذه البلدان ينتمون لمجلس تعاون أم تآمر على هذه الأمة؟ وهم تراهم أمراء وملوك رحماء فيما بينهم أشداء على أمة العرب والاسلام..! ولا شيء يجمعهم غير العبث وتأجيج الفوضى والتحريض على الاقتتال وتمويل النزاع وسفك الدماء في دول كان قدرها أن تُسمّي الحروب والاقتتال بين أبنائها “ربيعـاً” رغم أنفها…!
والغريب بأنهم متفقين متآزرين كبنيان مرصوص في البحرين والقطيف ضد كل من تسوّل له نفسه معارضة أنظمتهم أو تجرأ أن يستنسخ تجربة الربيع العربي في بلدانهم، وملتحمين متآزرين في جبهة واحدة من أجل استمرار مسلسل القتل وسفك الدماء وإشعال الحرب الطائفية بسوريا … ومتناحرين متقاتلين في ميادين وساحات مصر وتونس وليبيا والعراق وقد تحولت هذه البلدان الى ساحة تصفية حساب فيما بينهم.
وسواء تمرغت بأحضان الجزيرة أو بأحضان العربية وسكاي نيوز فالنتيجة واحدة … فلاشيء غير فوضى الدم والقتل والترويع ولا حصاد يرجى غير حسرة على أوطان تنساب كالرمال بين أصابعكم الملوثة بدماء بعضكم بعضا.. وربما سيأتي وقت لا تملك فيه إلا أن تجثوا على ركبتيك متضرعاً لأمراء وملوك الخليج بـأن يكفوا شرهم وعبثهم ويتوقفوا عن تأجيج الفتنة، أو أن تنتبه حكوماتكم لتنفق على اعلامها أكثر مما ينفقون .. ليكون ثمة اعلام يعنيكم وينتمي الى الوطن ليحميه شر الفتن وليبث خطاب المصالحة والحوار البناء بين أبناء الوطن بمختلف انتماءاتهم وعقائدهم لا غلبة فيه لطرف على الآخر بل مصلحة الوطن دائماً قبل وفوق الجميع.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
السعودية وقطر وعمان والبحرين… هل هذه البلدان ,بها ديمقراطية أو حرية
لمادا لم يمر بها الربيع العربي