قد يتوافق الجميع في ليبيا من مراقبين وباحثين ومهتمين بأن الحديث قبل عيد الأضحى عن خروج معظم الليبيين والليبيات، قبل اندلاع الحرب في الجنوب الغربي لطرابلس بداية هذا الأسبوع، من السلوك الجمعي الذي يعتبره الأغلبية صحيحا وموافقا للعقل، وفي نفس الوقت لا ينكر أحد أن الشعب الليبي يعيش حالة من الاستياء والامتعاض نتيجة آلام ومرارة ضنك العيش التي أملتها أيادي سوداء لها توجهاتها المختلفة والمتعددة. فهناك من ينتقم من الشعب الليبي ويؤنبه على خروجه السلمي في 2011 مطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية، وهناك أيضا من وجد ضمانات لمصالحة في انتشار الفوضى وغياب الدولة ، وهناك من يصغي ويشعل الحرب نتيجة تعليمات دول خارجية متصارعة أو حتى الانصياع لامتلاءات في أغلبها لها علاقة بحصد الأموال من البنك المركزي.
العقل الجمعي:
عندما يطرح العقل الجمعي للدراسة أو النقاش نجد شبه إجماع على استحضار كلمات عالم الاجتماع الفرنسي دوركهايم الذي يرى بأن «العقل الجمعي يعبّر عن المعتقدات والمواقف الأخلاقية المشتركة التي تعمل كقوة على التوحيد داخل المجتمع مما يخلق تضامناً اجتماعياً آلياً من خلال هذا التصور المشترك والمتشابه للمجتمع» وربما هذا ما توافق عليه الشعب الليبي مع بداية انتفاضة 2011. أو مقولة الفيلسوف الظاهري أبن حزم حين يقول : “«لا فرق بين مقلد وبهيمة تقاد» فيظهر في غياب مشكلة حقيقية بين الأخوة الليبيين أننا نرى شباب يقادون لإشعال حرب دون تحديد واضح للعدو ودوافع حرب مقنعة. وهذا ما يعبر عنه أبن حزم بالبهيمة التي تقاد ولا تدري أنها تتابع خطواتها تجاه حتفها! وفي ليبيا يتم تحريك صناع الصراع الحربي كبيادق على رقعة ليبيا اليوم في الجنوب الغربي لطرابلس وفي ضواحي بني وليد وعلى أطراف سرت.
بات يعرف العقل الجمعي أيضا ” بالأثر الاجتماعي المعلوماتي ” فعندما نستحضر بنية العقل الجمعي نجد أن تصريحات السياسيين والأعلام المفبرك ولا ننسى دور الجيوش الالكترونية بأنها تسهم بفعالية في صناعة وصياغة العقل الجمعي. وفي هذا الخصوص يحضر قول الكاتب أمين الريحاني ” أدركتُ أنَّ سببَ تهافت أغلبية الناس على الانخراط في عقلية القطيع، هو التعايش مع الحياة بكل نقائضها وطريقة لرفع اللوم عن أنفسهم، وهروب من المسؤولية بطريقة لا واعية لإضاعة دم الحقيقة بين قبائل القطيع”. نعم لا يمكن قبول الانحياز لآي طرف من المجموعات المسلحة إلا باستحضار الكراهية والعنصرية القبلية والفوارق الاجتماعية بعد أن فشل المجلس الرئاسي في توفير الحد الأدنى من الخدمات والآمان في ليبيا.
العقل الجمعي بين الايجابية والسلبية!
يشير الكاتب عبدالله الهدية الشحي في مقالته: “دور العقل الجمعي” والمنشورة على موقع الخليج بتاريخ 19/10/2016 إلى أن للعقل الجمعي جانب إيجابي عندما يلعب : “دوراً مهماً في المحافظة على منظومتي القيم والسلوك القويم وفي صون مكونات الهوية الوطنية للمجتمعات وفي وحدة صفها” ويصبح العقل الجمعي سلبيا عندما يقع: ” تحت سيطرة وتأثير الجماعة المتحزبة لفكرها الضال ولثقافتها التي تجاوزها الزمن والمتعصبة لمذهبها الراديكالي المتشدد الذي لا يطيق التعامل مع الآخر”. ونجد هنا فرصة إشعال الحرب أسرع وأقرب وخاصة عندما يريد اللاعبون الدوليون تحقيق نتائج سريعة. ويؤكد على ذلك الكاتب غسان النبهان في مقالته: ” العقل الجمعي..ومجتمع القطيع ” على موقع البصائر بأن العقل الجمعي سينقلب كارثياُ : ” إذا لم ينطلق من مفاهيم رشيدة وقيم إنسانية عُليا، وإذا لم يكن قادته راشدين فسوف يكون عقلاً أهوجاً ومدمراً يُهلك نفسه بنفسه وسوف يكون خرابه ذاتياً أكثر منه خارجياً.” واليوم نرى دعوات متعددة للتظاهرة مستغلةً في ذلك حالة التأزم التي تعيشها ليبيا دون أن تحرك القيم الأخلاقية الداعية للعدل والإنصاف ولمشروع ينقذ البلاد من حالة التخبط التي تغرق فيها أو تُرسم ملامح خارطة طريق تبعث الأمل في الوصول بليبيا إلى بر الأمان..
غياب العدو والتيار الجارف!
يتم خلق العدو ببلدي ليبيا بشكل وهمي وبدون أن يكون هناك عدو حقيق. صحيح نجح النظام السابق في خلق كراهية مفرطة ومصطنعة بين الأخوة والأخوات في ليبيا مستغلا الفروق الاجتماعية والثقافية والمذهبية وحتى اللغوية والعرقية ليصبح منا وفينا ذلك العدو الوهمي. التأكيد على صناعة العدو خلقه أو ساعد على إذكائه ضعف الأداء الحكومي وأيضا التدخل الدولي أو بالأحرى الصراع الدولي على أرض ليبيا!
لضمان قادة بعض المجموعات المسلحة مصالحهم المالية تجدهم ينصاعون لدوافع، غير المبرر مخفية، تحركهم مستغلين في ذلك من يتلقون منهم مرتبات من الشباب بالتحرك وبشكل عشوائي ليشعلوا الحرب دون وجود عداء حقيقي بينهم! وهكذا ظروف يتربص لها الأعداء وسيحاولون تهيج العقل الجمعي بحيث يتحول، في غياب القيادة المحكمة، إلى صدام بين التيار الشعبي الذي قد يكون جارفاً نحو انهيار الدولة. هذا ولو أننا افتراضنا غياب التحرك العسكري! ولنتخيل كيف سيكون الحال في ليبيا لم تم تحريك العقل الجمعي يتقدمُهُ تحرك حربي مسلح؟!
تظاهرة 2011 لن تتكرر!
يتوهم من يظن أنه من السهل اليوم إعادة خروج الشعب الليبي كما حدث في فبراير 2011. لقد كانت هناك جاهزية دفعت الشعب الليبي للخروج والتظاهر ضد نظام قمعي دكتاتوري، أوغل وأمعن وبالغ في تفكيك منظومته الاخلاقية والاجتماعية بعد تهديم نظامه السياسي قبل الاقتصادي، له مبرراته المحركه للعقل الجمعي الايجابي للانتفاضة والانفجار. إلا أن غياب المشروع الواضح والقيادة المعلنة سمح لجميع الانتهازيين بالقفز على أكتاف الثوار الشرفاء الذي خرجوا سلميا مطالبين بالحرية والعدالة الاجتماعية. ولما فرض عليهم حمل السلاح حملوهُ مكرهين ومرغمين وهم رافضين للدكتاتورية، وساهموا في اجتثاث نظام دكتاتوري قمعي. بالطيع لتحقيق نتائج سريعة والإجهاز على نظام دكتاتوري كان التدخل العسكري الحربي. ولكن من كانت بيدهم دفة القيادة انحرفوا عن جادة الثورة والثوار وادخلوا البلاد في صراع بعد أن سمحوا للأجنبي الصراع الحربي على أرض ليبيا مستغلين شباب ليبيا ليكونوا وقودا لها بعد أن تشكلوا ف مجموعات مسلحة.
ما نحتاجه اليوم!
نحتاج اليوم لصياغة عقل جمعي لا تشكله الجُموع الدهماء ولكن يسعى لذلك وبشكل سلمي وحضاري المجتمع المدني ، والمثقفين، وجميع الاتحادات والنقابات تتحرك في عقولهم القيم الانسانية والرغبة في إنقاذ ليبيا من خطر المجموعات المسلحة بإدماجهم في المؤسسة الدفاعية والأمنية أو إعادة إدماجهم في المؤسسات المدنية. على أن يكون ذلك ضمن مشروع كامل لحكومة انقاذ، لا يصطدم بالمؤسسات الثلاثة القائمة، وينتشل ليبيا من مستنقع غياب الآمان والخدمات ضمن خارطة طريق واضحة المعالم ولمدة محددة تلقى القبول من المجتمع الدولي.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً