لا يمكن حصر إشكاليات الانتخابات الليبية في نقط يمكن عدها، لكن سأتناول في هذا المقال ما أراه أهمها وأعظمها أثر في مستقبل ليبيا على ضوء هذه الانتخابات.
وإذا جاز لي أن أضعها في نقاط حسب ترتيب أهميتها ربما لن أوفق بسبب تداخل بعضها مع الآخر، لذلك سأتحدث عن كل نقطة دون أن يكون تقديمها أو تأخيرها مؤشرا على أهميتها.
(1) التدخل الخارجي:
عدد المؤتمرات التي حاولت في ظاهر مساعيها حل الازمة الليبية تجاوزت الحصر ايضا، وقد عقدت جل هذه اللقاءات والمؤتمرات تحت رعاية البعثة الاممية للدعم، والتي انشئت العام 2011 بقرار صادر عن مجلس الامن حمل الرقم 2009. والحقيقة حظور الامم المتحدة في الملف الليبي حظور قديم يمتد الى تاريخ تأسيس الدولة اللييبية في العام 1949، الذي استطاع ان يكون كيانا ولاعبا مهما في الساحة الدولية لما ملكه هذا الكيان من ثروات وضفت من قبل النظام السابق في تحريك العديد من الملفات في الدول الافريقية والاسيوية، خاصة تلك التي تمر بازمات سياسية ، فنازع فرنسا في هيمنتها على دول الصحراء على الاراضي التشادية، وتأمر على حكومات السودان، وبعث جنوده الى اوغندا ولبنان، وساند الحرب الايرانية العراقية منقلبا على توجه القومي وغيرها. وكان لها حضور ايضا في 2011 في القضاء على نظام معمر القذافي حين اقر للنيتو التدخل. وهنا يجب ان نذكر بان من يهيمن على السياسات الدولية ورسمها هو مجلس الامن باعضائه الخمسة الكبار، وبالتالي من السداجة ان نقول مثلا ان الناتو تدخل في ليبيا بطلب من اللييبين، لكن الليبييون الذين ثارو على النظام وجدو في تدخل الناتو امرا محمود نظرا لضرواة النظام الذي يواجهونه وقسوته.
التدخل الاممي عن طريق مجلس الامن امر ليس من الممكن رفضه، لذلك من الحصافة التعامل معه، لكن اللاعبين الوطنين اساءو التعامل مع التدخل الاممي وعوضا عن توظيفه لحل مشاكلها، استعمل هذا التدخل لادكاء نار الفتنة والشقاق، فاختلاف الليبيين في الداخل هو ما جعل دور مجلس الامن غير واضح المعالم، بل ولم يتفق اعضاءه على مسار واحد لحل الازمة الليبية.
المهم كل هذه المؤتمرات من الصخيرات الى ابوظبي تم باريس فبليرمو وبرلين واحد وبرلين 2 وجنيف كلها اوجدت حلول كان ممكن البناء عليها لتجنب الخلاف، ولكن لان ظاهر مساعي الدول المساندة والداعمة لهذه المؤتمرات لا يوافق ما تحيكه في الخفاء فشلت كل هذه المؤتمرات في تحقيق المأمول منها محليا، الا انها نجحت في زيادة تدخل الدول الاقليمية خاصة في التحكم في سير الامور في ليبيا من خلال هيمنتها على من تدعمهم بالداخل.
وعلينا ان نفرق بين التدخل الاممي والتدخل الدولي، فالتدخل الاممي الذي يمارسه مجلس الامن لا يمكن تفاديه، وبالتالي القبول به امر واقع بغض النظر عن مبرراته، وتدخله لا يحسب نوعا من الاعتداء على دولة عضو ولا يصنف تحت صنف الاحتلال بل الحماية بغض النظر عن نتائجه. لذلك نرى الفرق واضح في الحالة العراقية والحالة الليبية رغم تشابه ماءلات التدخل. لكن التدخل الذي يعتبر احد اشكاليات الحالة الليبية وينعكس على انتخاباتها المقبلة ان تمت هو التدخل الاقليمي والذي يجد معاول من ابناء الوطن يستخدمها لتحقيق مصالحه وتعطيل ما لا يتوافق مع هذه المصالح. وقد رأينا انعكاس هذا التدخل واضح في حرب طرابلس الذي دفعت اليه مصر والسعودية والاماراات وباركته ادارة ترمب، والتي جلبت الروس والفرنسيين مما ادى الى استعانة حكومة الوفاق بتركيا، وادى التدخل التركي والتفاهم بينها وبين روسيا الى ايقاف الحرب ووضع حدود فاصلة بين قوات حفتر وحكومة الوفاق. لكن ايضا رسخ الوجود التركي والروسي واصبح موضوع اخراج قواتهما من الارض الليبية حجر عثرة في كل حركة من اجل اعادة الدولة وتحقيق استقلاليتها.
(2) الوضع الأمني:
منذ بداية الثورة استطاعت البندقية ان تكون اداة حاكمة، ولم تتمكن الدولة منذ 2011 من استرجاع سيطرتها على السلاح، فظل السلاح اداة تهديد للامن ولتحقيق مكاسب مادية تعززت مع الوقت في ظل الخلاف الذي نشب. وقد اكتسب حملة السلاح الشرعية من الاجسام التشريعية التي هيمنت على المشهد السياسي الليبي. وادت حرب طرابلس الى تعزيز هيمنة حملة السلاح من خلال الدعم الدولي (وليس الاممي) لهذه الجماعات التي تسمت باسماء مختلفة.
يعتقد البعض ان القوات التي شكلها حفتر هي قوات وطنية، لكنه يجهل ان هذه القوات تشكلت بعيد عن الدولة، ورغم انها نالت الشرعية من خلال منح البرلمان قائد هذه القوات صفة القائد العام للقوات المسلحة، وتسمت باسم القوات المسلحة العربية الليبية، الا ان ولاء هذه القوات لم يكن في يوم من الايام ولائه للدولة، بل لم يعترف بمؤسساتها القائمة ، ولم يخضع في يوم من الايام الى السلطة التشريعية التي منحته صفته. وعرقل عمل الحكومات المتعاقبة على بسط سيطرتها على كافة التراب الليبي. وقاد حروبه دون تفويض من الدولة.
هذه التصرفات لا تجعله يختلف عن الميليشيات التي امتلكت السلاح منذ العام 2011، باستثناء حجم الدعم الخارجي الذي يحظى به من الدول “الشقيقة” التي ساهمت في “شق” الصف الليبي.
عدم خضوع هذه القوات، بمختلف مسمياته، لسيطرة الدولة المثمتلة في البرلمان والحكومة، وهيمنتها المطلقة على مناطق نفود لا ينازع فيها، سيجعل من السداجة الاعتقاد ان تجري انتخابات نزية في مناطق نفودهم، ناهيك عن تمكين حرية الحركة لمنافسيهم في الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
(3) المتقدمين للانتخابات الرئاسية:
عدد المتقدمين لخوض الانتخابات الرئاسية ناهز المائة مرشح، جلهم نكرة لم يسمع بهم الشارع الليبي ولا يعرف لهم اسهامات سياسية او فكرية، كما تتضمن القائمة العديد ممن مارس “السياسة” خلال عقد الثورة وساهم في تدني الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولعل هذه الفئة التي ساهمت في تردي هذه الاوضاع للاسف هى اكبر الفئات المعول على وصولها للسلطة بسبب علاقاتها الدولية وارتبطاتها المشبوهة، ضف على ذلك ان هذه الشخصيات هي شخصيات جدلية ينقسم الشارع الليبي على تقييمها واعتبارها. وصول احدى هذه الشخصيات سيرفض من خصمه السياسي، وبالتالي ستفشل العملية الانتخابية وقد تؤدي الى تقسيم الدولة الى مناطق نفود لهذا الفصيل وخصمه في ظل السلاح الذي لم يثم الاتفاق على مشروعية حامليه، ولن تستطيع الدولة الهيمنة عليه. ناهيك على ان وراء هذه الشخصيات الجدلية دول ستعمل ايضا على تقويض العملية الانتخابية ان لم تأتي بمن يمثل مصالحها.
(4) غياب الدستور:
ورد للدُّستور العديد من التعريفات، ويحكم هذه التعريفات في المجمل طبيعة النّظام الدُّستوريّ الذي يتبناء هذا التعريف وكذلك ظروف الدّولة السياسيّة والاقتصاديّة. لكن ممكن تقسيم التعريفات الشائعة للدستور الى قسمين يعتمدهما الفقة الدستوري كمعيار. المعيار الاول هو المعيار المصطلح على تسميته بالمعيار الشكلي، ويعتمد هذا المعيار على صياغة وثيقة تحتوى على مجموعة من القواعد والاحكام بغض النظر عن طبيعة هذه الاحكام. والمعيار الثاني الذي يعرف بالمعيار الموضوعي يعتمد على مضمون القاعدة الدستورية، ويفرق بينها وبين القاعدة القانونية. ورغم تعدد التعريفات ومعايرها الا ان دور الدستور هو تحديد صلاحيات السلطة السياسية في الدولة وتنظيم العلاقة بين السلطات الحاكمة، وصيانة حقوق وواجبات افراد المجتمع، ويحدد شكل الدولة وطبيعة نظامها السياسي. باختصار يمثل الدستور قوة المجتمع، وهو وثيقة تعلو على كل ما سواها من الوثائق والاحكام، وتعتبر كل الاحكاو والقوانين التي تخالف الدستور باطلة.
لهذا من السداجة الحديث عن بناء دولة دون ان تصاغ وثيقة محل احترام يتفق عليها تبين طبيعة النظام الحاكم ومسؤوليات افراد المجتمع وحقوقهم حتى لا يترك هذا الامر لاهواء المتنفدين والذين بيدهم زمام الامور. ناهيك على الذهاب الى انتخابات رئاسية تسبق الانتخابات البرلمانية في غياب الدستور.
(5) تقديم الانتخابات الرئاسية عن البرلمانية:
في غياب الدولة، واعادة تأسيسها، يصبح من الخطر بمكان ان تلقي كل مقوماتها في يد قوية مؤهلة لان تمارس الاستبداد بسبب اتساع صلاحياتها، وليبيا لا تملك دستور يقيد الحاكم، وبالتالي يجب ان تتكون جهة رقابية تعمل على مراقبته والحد من استقلاله المطلق بالقرار السياسي، ولا يمكن ان تلعب اي مؤسسة هذا الدور الا البرلمان الذي يمتلك سلطة التشريع ويمثل كل المواطنين، وينوب عنهم في حماية مصالحهم.
في هذا الشأن يطرح سؤال نفسه: ما افضلية تقديم او تزامن الانتخابات؟ حتى نجيب عن هذا السؤال نحتاج الى وضع اكثر من سيناريو يتناول هذا الموضوع، وعرض هذه السيناريوهات على الانتخابات المعمول بها في كل دول العالم باختلاف انظمتها. وبعيدا عن التفاصيل فلا يوجد نظام في العالم تسبق فيه الانتخابات الرئاسية الانتخابات البرلمانية، والحديث عنها في ليبيا يجعل التشكيك في اهذاف قانون الانتخابات مبرر.
البرلمان يتقاسم السلطة و يشتتها، وقد يؤدى ذلك الى الفوضى لكنه لن يسمح بتجميعها في يد واحدة يمكن ان تنحرف بها الى الاستبداد، وفي الحالة الليبية نفترض سيناريو ان تعقد الانتخابات الرئاسية قبل الانتخابات البرلمانية. فهل سيعمل البرلمان بقيادته الحالية على اجراء الانتخابات البرلمانية، خاصة اذا كان الرئيس القادم على وئام وتوافق مع رئيس البرلمان.
والسيناريو الثاني، نفترض وصول شخص غير جدلي الى السلطة، وهذا يعني ان رئيس البرلمان والقائد العام للقوات المسلحة ورئيس ديوان المحاسبة ورئيس حكومة الوحدة (باعتبارهم مرشحين للانتخابات الرئاسية) سيعودون الى مناصبهم حسب المادة 12 من قانون الانتخابات، وهنا هل سنضمن ان الرئيس القادم سيكون قادر على عزل هذه الشخصيات عن مناصبها؟. العديد من التسائلات المشروعة تجعلنا نجزم بان تقجيم الانتخابات الرئاسية عن البرلمانية “بدعة” سياسية يقصد بها عدم الوصول الى الاستقرار في الشأن الليبي.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً