لا شك أن الإعلام له أهمية قصوى في جميع الأزمان والأوطان، ويعتبر التلفاز على قمة وسائل الإعلام الحديثة، فهو الأوسع إنتشاراً والأكثر إلتصاقاً بالجماهير، أما الراديو والصحف الورقية فإنها لم تتطور كثيراً وينحصر مريدوها على مجموعات محدودة. ورغم وجود إعلام بديل، والمتمثل في مواقع التواصل الإجتماعي والصحف الإليكترونية (وهو إعلام عابر للقارات مثل التلفاز) إلا أن تدني المستوى التعليمي في الكثير من الدول وفي مقدمتها ليبيا يحول دون الإستفادة من هذا النمط، ففي ليبيا قفز عدد مستعملي النت من 400 ألف سنة 2010 إلى قرابة المليون سنة 2013 (17/100) وهو رقم لا يزال ضئيل، فضلاً عن أن معظم مستخدمي هذه التقنية من الشباب في مقتبل العمر والأطفال وهؤلاء إستعمالهم للمواقع يتركز جلها على الموضوعات الترفيهية.
ويدخل في هذا المجال الصحف الإليكترونية الجادة وهو إعلام قوي رصين يتم الإستفادة منه كثيراً في الدول المتحضرة، إلا أن العقبة السابقة في المنظومة الليبية (تدني توفر التقنية والمعرفة) تحول دون الإستفادة منه على نطاق واسع، فهو إعلام يكتبه ويقراءه المتقفون، وإنتشاره لا يتجاوز العشرات من الآلاف موزعين على شتى أصقاع الأرض.
وبذلك فإن الإعلام الموجه بصورة التلفاز هو العامل الأساسي في إقتياد الشعوب وكسب تأييدها، ولقد علم حكام الدول الشمولية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ذلك لحقب عديدة فتم إستغلاله أيما إستغلال، ففي هزيمة 5 يونيو 67 إستطاع الجيش الإسرائيلي القضاء على القوات الجوية المصرية في ست ساعات، في حين أن الإعلام المصري بقيادة أحمد سعيد يتحدث عن النصر المبين، وفي حرب الخليج الثانية، تصل قوات التحالف على بعد أمتار من بغداد ومحمد الصحاف يتحدث عن الإنصارات ودحر العدو، والآن قوات حفتر تقوم بتسليم مواقعها يوما بعد يوم وتتستر على خسائرها البشرية، في حين أن الرائد حجازي يقوم بالتصوير داخل بنغازي ويسجد شكراً لله على تحريرها من العصابات الإرهابية.
وتكمن مشكلة الإعلام الشعبوي في أنها تقوم بالتعبئة العامة على أسس مزيفة، وتنقل الخبر بعيداً عن المهنية، فالإعلام الشعبوي التعبوي لا يفصل بين الخبر والتحليل، بل أنه في كثير من الأحيان يتعمد التضليل تبعا للسياسات التابع لها، ويقوم إستضافة شخصيات لا علاقة لها بالحدث سوى تأكيد السياسة المتبعة.
ولقد إستطاعت الإذاعات الموجهة أن تلعب دوراً أساسياً في تسميم وتعقيد المشهد الليبي، فلقد كانت البداية بتقسيم المؤتمر إلى إرهابيين ومعتدليين، ثم شيطنة المؤتمر والمناداة بإنهاء عمله تحث برنامج لا للتمديد، وأن البرلمان القادم هو البلسم للقضايا الليبية، تلا ذلك شيطنة القوى الإسلامية بأنها قوى إرهابية تعج بالقاعدة وأنصار الشريعة وبوكوحرام، ثم الرهان على أن حلول المشاكل الليبية لا تتم إلا بمشاركة الحكومة المصرية، وأخير الرهان على أن إعتراف الدول الأوروبية بمؤسسات الدولة الليبية ومنها البرلمان والحكومة هو السبيل الوحيد لحل المشاكل الداخلية. ولقد أدى هذا الطرح الإعلامي إلى إنقسام أفقي وعمودي كبير في المجمع الليبي ساعد على نشوب حروب طاحنة بين أبناء الوطن الواحد بل المدينة الواحدة في الشرق والغرب الليبي.
ولقد أثبتت الأيام عدم صحة التضليل الإعلامي السابق، فالمؤتمر رغم إنتهاكه لأكثر من مئتين وخمسون حادثة لم يستقوي بالخارج ولم يؤلب فصيل مسلح ليبي على آخر، وطرابلس التي تحكمها القاعدة وبوكوحرام يزورها الأمين العام للأمم المتحدة وهي تنعم بالآمان وإنتظام الخدمات ما لم يكن في السابق، مع توقفت إعتصامات الحقول في المنطقة الغربية ولم يعد هناك إنقطاع للكهرباء، وإنتظمت المؤسسات التعليمية والخدمية في عملها. أما مسالة سرعة إعتراف الدول الغربية بالبرلمان فله أسبابه، فمخاوف الغرب تنحصر في نقطتين أساسيتين، الأولى منع تدفق المهاجرين إليها، والثانية منع وصول الإرهاب إلى أراضيها، وتعتقد هذه الدول (بحياء) أن الحكم الشمولي السابق قد قام بدوره جيداً، ولا تمانع أن يكون هناك حكم شمولي آخر يؤدي نفس الغرض.
في زمن الثورة من سنة 2011 كان الشعب الليبي ملتفاً حول إذاعات وطنية محدودة، إيمانا منه أنها تمثل نبض الشارع فكان الرأي العام متبلوراً في رؤية واحدة، وهي بناء ليبيا العصرية على أسس الحداثة، وذلك لم يمنع وجود إختلاف في وسائل تحقيق ذلك. مع بداية 2113 نشطت الإذاعات الموجه (وما خلفها من مصالح شخصية وإقليمية) ووجدت لها تربة خصبة في نقص خبرة أعضاء المؤتمر وإنشقاقاتهم وسؤ تصرف البعض منهم، وكذلك صعود التيار الفيدرالي في الشرق الليبي، لتمطر هذه الإذاعات الموجهة الشعب الليبي بوابل من الإعلام الشعبوي الذي يخدم جهات معينة، ويحول البلد إلى ما نحن عليه من إنشقاق وتناحر.
بالمقابل فأن قراءة تاريخ الشعوب وتجاربها نحو الديموقراطية يؤكد أن ما يحدث في ليبيا شئ معتاد، فالنهج الديموقراطي طويل وعسير، والكثير من الدول تتعثر كثراً قبل بلوغ أهدافها، وقد تستقر في المنطقة الرمادية لسنوات عديدة كما حدث لدول الإتحاد السوفيتي السابق ومعهم روسيا، وقد تجد طريقها بعد سنوات من التعثر كما حدث لدول أوروبا الشرقية. ومن محاسن هذه القلاقل أن الإصطفاف والقتال القبلي والجهوي يحفز ويفعل الشعور بالمواطنة، والإنفلات الأمني يؤكد أهمية مؤسسات الدولة، وحوادث إستخدام السلاح يعزز الشعور بتقنين إستعماله، وفضح الفاسدين والمرتشين يساعد على دعم الشفافية وإختيار الكفاءة النظيفة، وهي خطوات مهمة لتكوين دولة ينشدها ويرنوا إليها كل الليبيين.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً