إذا ما تخطّينا مدن الساحل الغربي بليبيا، والتي لا أعرف عنها الكثير، استطيع القول بأنه يوجد بين دفتي سردية المأثور االشعبي الليبي ما يقول (الدم غاطي العيب)، وفي تقديري بأن الفضاء الديمغرافي الثقافي الذي يستوطن جغرافية شرق وجنوب المتوسط، والذي يعتبر الوعاء الجغرافي الليبي أحد مفرداته الطبيعية، قد صاغة قريحته أثناء صراعها وتدافعها وعراكها مع صروف الدهر، ما يُحاكي ويُجاري في المعنى والمضمون ما جاء في سردية المأثور الشعبي الليبي القائل (الدم غاطي العيب).
وفي العادة يُستدع هذا (القول المأثور) للحضور والتداول على الألسن وفي الأفواه، داخل مجالس الصلح بغرض فض النزاع والاشتباك والعراك بين أطراف متخاصمة انتقل في ما بينها إلى صدام عنيف مُخلفا ورائه آثار لمفاجأة ملطّخة بدم وجروح مع ضرر كبير، وغالبا ما ينهض الحدث المفاجئ الدامي، نتيجة تحرك واندفاع الطرف المبادر للعراك، نحو ساحة الصدام، بغرض رد اعتبار أو مهانة أو حيف وظلم يُرّهق وجّدانه.
فقول (الدم غاطي العيب) عندما يُستدعى للحضور في هذه الظروف العصيبة، ويستخدم كفاتحة للحديث داخل مجالس الصلح وحل النزاع، قد يظهر وكأنه مُحملا بلوم وبإدانة لهذا الطرف المبادر بالصدام، ولكن مفردة (العيب) التي جاءت آخر الكلمات الثلاث الحاملة لمضمون القول المأثور، أتت لتُظهر وتخط وترّسم أبعاد الصورة الكاملة للمشهد العصيب دونما اجتزاء، مند لحظة ولادته ابتدائنا في الماضي، الذي قد يكون بعيدا، إلى معايشة لحظته الدامية في الحاضر، لنسّتنتج بأن فعل الاستدعاء (للمأثور) إلى داخل مجالس الصلح، جاء بغرض تطّيب خاطر الطرف المكّلوم الملطخ وجهه بدم، وكتوطئة نفّسية، في اتجاه فتح باب لتواصل أقل توثر وتشنج مع الطرفين الخصمين.
كنت أحاول القول، بأن هذه الجغرافية الديمغرافية الثقافية التي تستوّطن الفضاء الجغرافي لجنوب وشرق المتوسط، عندما تتعكر وتتعثر مسيرة الحياة بفضائه المكاني، بطارئ عصيب، كوارث طبيعية، حروب، جوائح إلخ.. يقوم هذا الفضاء الديمغرافي الثقافي وعلى نحو تلقائي، باستلهام *مرّجعيته المعنوية الضابطة بمحدِداتها لسلوكه ومواقفه وتفاعله مع محيطه الاجتماعي عند الأزمات وخارجها، ليستخلص من سرديتها المناسب والمقبول، الذي يتخذ منه أداة ووسيلة يُشاغل ويعالج بها الطارئ العصيب العارض لمسيرته، كي يفسح به السبيل أمام الحياة لتستمر وتتقدم بأقل قدر من المنغصات.
كنت أحاول القول، بأن هذا الفضاء الديمغرافي الثقافي لجغرافية شرق وجنوب المتوسط، ليس جديد عهد بالحياة، فقد عاش في رحابها قرون طويلة من الزمان، أنتج خلالها حضارات، وعايش في كنفها حضارات أخرى، بل وقد اتخذت الديانات الثلاث الكبرى في التاريخ من فضاءه الحيوي دون سواه مهد وحاضنة لها، بمعنى أن الحياة قد عَرَكتْ هذا الفضاء الديمغرافي، وحفرت في وجّدانه مُحدِداتها الإنسانية، التي صبغت في العموم تعاطيه وتفاعله مع الآخر الشريك في رحاب الحياة الواسع، فجُبل في تعاطيه وتفاعله مع صُروف الحياة، بأن يكون محّكوم بمحتوى وعائه الوجداني، حتى وإن خدلته وقصّرت قدراته التعبيرية لفظا وسلوكا، فأظهرته بعكس ذلك.
كنت أحاول الوصول بالقول، من خلال ما تقدم، بأن ما يحدث من صراع ما بين الفلسطينيون والصهاينة على أرض قطاع غزة، يجب في تقديرى ألا يتخطى أو يغفل، كل ممن ينّبري لمحاولة احتواء الصراع ومن ثم تفكيكه، عن كل ما جاء في السطور أعلاه، لأنه لا سواه ولا غيره – في تقديري – مَن شكّل يُشكّل المُحدِد الطبيعي الذي لا تستسيغ تخطية وتجازوه ذائقة الوجدان الفلسطيني الذي يعتبر أحد مفردات الفضاء الديمغرافي الثقافي لجغرافية شرق وجنوب المتوسط.
فمثلا، عندما يأتي من حشّد البوارج الحربية مع حاملات الطائرات والغواصات ويتمركز على أطراف منطقة الصراع، ويعلن صراحة لوّمه وإدانته للطرف الفلسطيني، ويتخذ من موقفه هذا، ليس خطوة في اتجاه الجلوس مع الطرفيين في محاولة لاحتواء الصراع ومن ثم تفكيكه، بل يذهب بموقفه هذا ليستخدمه كذريعة للدعم المعنوي والمادي اللامحدود بجميع وجوهه للطرف الصهيوني لإبقاء جدوة الحرب والدمار مشتعلة، هنا – في تقديري – لا يجب أن ينّتظر من يقوم بهذا الفعل، بعد خدش واستفزاز الوجدان الفلسطيني الذي يضبط ويحّكم سلوك هذا المنكوب وامتداداته، استجابة إيجابية مُنّتجة في التعاطي مع حيثيات صراعه مع الآخر الصهيوني.
بل في تقديري، بأن فعل متحّيز كهذا، ليس من غير الطبيعي بألا ينتهي وبصاحبه إلى مفاجأة صاعقة، قد تتمثل في ظهور شخصية أسطورية تُحاكي أفعال ودور فرنكشتاين على مسرح الوجود، على الواقع الطبيعي الذي نعيشه ونُعايشه، على المحسوس الملموس منه، فهذه الأسطورية لا تحتاج لغير هذه الأفعال والمواقف المُتحيزة اللامسؤولة، كي تسّري الحياة والحركة في أوّصالها، لتنهض كالفنيق من تحت أنقاض الخراب والدمار الذى لحِق بالجغرافية الفلسطينية وامتداداتها، لتقوم بدورها المقدّس على اتساع جغرافية هذا العالم البائس، وعندها تكون الفأس قد وقعت في الرأس، وعندها يكون قد فات الأوان، وعندها لا تنفع لومة لائم.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً